يوم كانت عدن بندر كان للمرأة قضية

> د. اسمهان عقلان العلس:

>
د. اسمهان عقلان العلس
د. اسمهان عقلان العلس
يوم كانت عدن بندر وزارها الموسيقار العربي فريد الأطرش منعت المرأة العدنية من حضور الحفل الفني لهذا الموسيقار، وفوجئ فريد الأطرش بهذا الأمر، وعبّر في أكثر من مقابلة عن استيائه من هذا الإجراء الذي لم ير مثيلا له في مدن عربية إسلامية كثيرة كان هذا الموسيقار قد زارها. وانتهت الحفلات الفنية وغادر فريد الأطرش عدن، وربما كان هذا الحادث العرضي، البسيط في إجراءاته العميق في مضمونه، قد نسيه ذلك الموسيقار، لكن عدن لم تنس هذا الحادث. ولم تهدأ المناظرات والمنابر الفكرية والثقافية،على اختلاف مشاربها، التناظر حول جذوروخلفليات هذا المنع وأصوله الدينية أو آفاقه الليبرالية. فقد تجاذبت النخب الثقافية دواعي هذا الحظر وتداعياته وعلاقته بحقوق المرأة. وفردت الصحف الأهلية صفحاتها لتغطية هذا الجدل الفكري الناتج جراء ذلك القرار، وتراشقت أقلام المتحاورين ما بين مؤيد ومعارض. ووسط هذا الزخم الذي لم تشهده عدن في قضية اجتماعية سابقة ارتفعت نداءات المرأة مطالبة بحقوقها الانسانية. وعلى قاعدة ذلك الحظر في العام ذاته، والقضية مازالت ساخنة، ارتفعت أصوات المرأة مطالبة بالحق الانتخابي للمرأة العدنية ( أنظر صحيفة «الأيام» نداءات ماهية نجيب ).

واليوم لم تستطع المرأة في الانتخابات المحلية 2006 تحقيق ما نسبته 30% من النساء في المجالس المحلية وفقا لتوصيات مؤتمر بيجين أو 15% من تصريحات المؤتمر الشعبي العام، على الرغم من أن أطروحات التمكين السياسي للمرأة كانت قد رفعت منذ ما يزيد عن عشر سنوات، وربما لن تستطيع المرأة تحقيق ذلك حتى في الانتخابات القادمة، مادام رؤية المنظمات النسائية في هذا الجانب قاصرة، على الرغم من أن عدد منظمات المرأة آنذاك لم يكن يزيد عن منظمتين - نادي سيدات عدن وجمعية المرأة العدنية- الاّ أن حجم الحراك الثقافي الذي أحدثته المرأة والرجل على حد سواء على قاعدة ذلك الحظر كان كبيرا، أما اليوم فإن عدد منظمات المرأة بالعشرات والمئات وحقوق المرأة تغتال يوميا عند محراب الصمت الاجتماعي القاتل وليس أقصى من سلب الحقوق المالية للمرأة العاملة المحالة للتقاعد عند بلوغها أجل العمر وإجبارها على الخروج من الوظيفة براتب أقل، أو اغتيال حقوق المرأة الأكاديمية على أبواب جامعة عدن.

وظلت حادثة منع المرأة من حضور الحفل الفني حية في الأوساط الثقافية على مختلف مشاربها الفكرية، وغدت نقطة تنافر ساخنة بين رجال الدين - الشيخين علي محمد باحميش ومحمد سالم البيحاني والمنابر الثقافية التحررية. ووسط هذا الجدل الثري ارتفعت أطروحات المفكر السياسي البارز عبدالله باذيب منادية باعتبار حقوق المرأة جزءا من حقوق المجتمع، ولا يجوز الفصل بين حقوق المرأة والرجل ما دام الوطن مسلوبا والحرية مغتالة تحت بنادق الاستعمار البريطاني، ونادى باعتبار حقوق المرأة قضية اجتماعية لا تنفصل عن قضية المجتمع بأسره، ولن تنال المرأة حقوقها إلا في ظل نظام وطني حر. وأحدث مؤسس الفكر الاشتراكي العلمي في عدن عبدالله باذيب بهذا النهج تحولا جذريا في مفهوم المرأة إذ اعتبر المرأة قضية اجتماعية ( انظر: عبد الله باذيب، توابل) بعد أن كانت منذ ثلاثينات القرن العشرين موضوعا مهما، كما ورد في المشروع التنويري الحداثي لشيخ المؤيدين والمدافعين عن حقوق المرأة محمد علي لقمان (انظر اسمهان عقلان العلس: أوضاع المرأة في ظل الإدارة البريطانية لعدن).

وبسبب تداعيات زيارة فريد الأطرش أصبح لحقوق المرأة عنوان في الخطاب العام وفي خطاب المرأة ذاتها. وعلى هامش هذه التداعيات دخلت حقوق المعلمة العدنية إلى أجندة المجلس التشريعي لعدن في عام 1956، الذي أقر استمرار المعلمة العدنية في الخدمة المؤبدة عند زواجها وتمتعها بكافة حقوق الوظيفة، كما جلست المعلمة لأول مرة لامتحان الكفاءة والترقي أسوة بالمعلم الرجل لتتمتع بحقوق اشتغالها بالوظيفة على قدم المساواة مع الرجل. واليوم توزع فرص الترقيات وشغل الوظائف القيادية بعيدا عن مقاييس الكفاءة والأقدمية والمفاضلة بين المرأة والرجل في كل المرافق الحكومية، وليس أبلغ من غياب المرأة الأكاديمية عن خارطة التعيينات في عمادات كليات جامعة عدن ونياباتها ورئاسة أقسامها، إلا من تعيينات سابقة لبعض النساء الأكاديميات.

هذا الحادث العرضي البسيط العميق في مضمونه وأبعاده تلاحقت تداعياته منذ عام 1956 وحتى عام 1959 في أشكال متعددة في عدن، ربما تكون اختلفت في نهجها ورؤاها الفكرية لكنها شكلت آنذاك لوحة صادقة لمعنى ومضمون ومهام المجتمع المدني وحركة الرأي العام، التي تمتعت فيها الحركة الاجتماعية بالقدرة على التقاط الظرف الموضوعي الماثل أمامها، على بساطتة، وتحويله إلى رأي عام، هذه الخاصية ماتت فينا اليوم أو قتلناها بأنفسنا في الوقت الذي تزايدت فيه الحاجة إلى منظمات المجتمع المدني من أحزاب ومنظمات وأشكال مختلفة ينبغي أن تكون قادرة على تطبيق واستثمار هذه الخاصية، خاصة وأننا نعيش في عصر تعد فيه حركة الرأي العام والضغط الشعبي والنخب الثقافية سمة أساسية للمجتمع المدني ومقياساً للمجتمع الديموقراطي.

ومنذ ذلك الحادث العرضي أصبح لمصطلح حقوق المرأة موقع في أجندة وخطابات الأطراف الرسمية وغير الرسمية رجالا ونساء، وربما يكون فريد الأطرش قد نسي الحادث بمجرد خروجه من عدن، لكن تداعيات الحادث أدخلت الأحداث التي ترافقت معه أو بعده في حركة التاريخ التي لن ينساها أبدا.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى