حين يسقط الفرسان في هذا الزمان (إلى قاسم الجانحي)

> علي صالح محمد:

> إليك أيها الزمان أعلن أني أحد الذين لم تهزهم الأحداث إلى حد الفجيعة ولمم تهزمهم الهزائم إلى حد الانكسار، ومع ذلك أجد نفسي رغماً عني أحد الذين تسكنهم الهزيمة المتلاحقة ليس من تتابع الحروب وأشكال المآسي الناتجة عنها، وليس من قلة الحظوظ والأقدار التي تخصك برعايتها أو تصيبك بعزوفها، بغناها أو بفقرها، ولكن تلك الهزيمة التي تصيبك حين تجد نفسك في موقع العاجز- حتى وإن كنت مقتدراً - ولا تستطيع أن تسعف من يستحق الإسعاف ممن تحبهم حين يتعرض من غير إشعار مسبق لعارض صحي مفاجئ جراء (الضغوط والسموم بكل أشكالها) ينتج عنه عطل لجزء أو لبعض أو لكل وظائف الجسم أو الوفاة، وبالذات حين يكون هذا الانسان من ذلك الصنف الذي لم تهزه أعاصير الزمان وأهوال الصراعات ورصاصاتها الغزيرة التي أثخن بها الجسد المقاوم في أكثر من مرة لتستقر بعضها وتسكنه بصفة دائمة كتذكار مؤلم لتلك الأحداث والأهوال، ومع ذلك لم تنل من عزيمته أو تغير من مواقفه وخياراته الإنسانية بل كانت تمنحه المكانة اللائقة من الاحترام والتقدير ليسكن قلوب الناس البسطاء بجدارة لا تضاهى.

هنا ومع مثل هذا الصنف من الرجال الفولاذيين تصبح مشاعر الهزيمة أشد وطأة على إحساسك الإنساني الكبير، وتثقل الكاهل بلا رحمة، كسجين بلا قيود، ولكنه واقف بلا حراك، لتجد نفسك مرغماً في وضع المستسلم لأوضاع مصطنعة ومتعمدة، لواقع فرض علينا عنوة جراء الهزيمة وما ترتب عنها من أوضاع خدمية ومعيشية وحقوقية مهينة ، حتى أن هذه الجلطة أو ذاك النزيف الذي يتعرض لها هذا أو ذاك من الناس ليسقطوا وهم وقوف، ليست سوى إحدى صور المأساة الناتجة عن الحرب اللعينة بتراكماتها المؤذية والمتواصلة للناس عموماً، ليصل أذاها بقوة إلى تلك الهامات الشريفة والكوكبة التي أسهمت بجدارة في صنع الاستقلال الوطني ودافعت برجولة عن شرف الوجود الإنساني على هذه الأرض الطيبة التي تعرضت للاحتلال والمهانة من قبل الغزاة الطامعين عبر التاريخ ولم تعد تلقى الرعاية اللائقة ليصبحوا في موقع العقاب والحساب بدلاً من الإشادة والتكريم، وحين يسقط أحد هؤلاء الفرسان من جراء هكذا وضع نرى كيف أن الهزيمة أضحت عنواناً وواقعاً لقمع الأرواح وقهر الرجال الحقيقيين الذين لا يساومون، أولئك الذين يعتبرون أن الشرف لا يكمن في المعيشة الهامشية بل في الحياة الحرة الكريمة بعيداً عن أشكال الإذلال و المهانة المتعمدة ليسقطوا من جرائها تباعاً وهم وواقفون صامدون بسبب الضغوط التي يكابدونها بصمت وإباء وكبرياء، لأن مثل هؤلاء تشكلوا عبر بوابة الحياة الحقيقية ليحتلوا موقعهم الاجتماعي بجدارة وامتياز ليصبحوا رموزاً اجتماعية معترفاً بها تحظى بالمحبة والاحترام، صنعتها المواقف الانسانية المتميزة من خلال الالتصاق الطبيعي الحميم والصادق بقضايا الناس والإحساس بآلامهم وهمومهم، ليصبحوا أعلاماً أساسية في الذاكرة الشعبية الأصيلة بصورها العميقة البسيطة والمعقدة باعتبارهم أهم عناصرها المحركة، ومن هؤلاء المميزين يبرز اسم الإنسان العزيز الشيخ قاسم عبدالرب الجانحي الذي تعرض مؤخراً ومن غير عارض صحي سابق لارتفاع مفاجئ في ضغط الدم وهو بين ثلة من أصدقائه يتسلى معهم بلعبة الورق لتمضية الوقت ولتصريف الهم وتجنبه، ليودع يوماً من العمر بلا نكد، ليصاب بنزيف دماغي يقعده طريح الفراش، وهو الذي لم تقعده ثلاثين طلقة رصاص اخترقت جسده المتين في يوم من الأيام.

إيه يا قاسم .. أهكذا ببساطة تهزمنا الهزيمة ونحن جلوس قاعدون .. وأنت من واجه الهزيمة في عز حضورها وسطوتها؟ أهكذا يا صديقي نسقط وأنت الذي لم تُحنَ هامته ولم ُتثنَ قامته إلا لرب الوجود وخالقه فقط؟ لتكشف بخصالك المميزة حقيقة أن الرجال كالمعادن منها النفيس ومنها الرخيص، منها من يلمع كالذهب حين يستمتع بمزايا السلطة ليتحول إلى نحاس حين يغادرها، تراه نمراً مع الكرسي وثعلباً بدونه، أما أنت فكنت يا صديقي نعم الذهب الذي ازداد لمعانه وبريقه مع الزمن، وكنت النمر وقت الشدائد والمحن، الأسد الهصور حين يُستفز والحمل الوديع حين يعامل بلطف، تأسرك كلمة حق ويغضبك موقف باطل، تنساب الدموع من عينيك كشلالات الهملايا حين تنالك أو تلسعك سهام الكذب والنفاق وأساليب الغش والخداع أو الوعدود الزائفة.. وحين تتحدث بتلقائيتك المميزة يتحول صوتك الهادر المجلجل بامتياز إلى موسيقى مرحة وناعمة في آذان مستمعيك لا يملون سماعها ابداً، تحمل الصدق والفرح ونصرة الحق بين ثنايا ضلوعك كعناوين حياة وعطايا محبة تمنحها للغير بلا مقابل، وحين تحزن يحزن الكون معك، هكذا أنـت متعدد السجايا والخصال متميز في المزايا والصفات.

لهذا كنت وستـظل الإنسان الحقيقي الـذي حفر باقتـدار واحتـل بجـدارة مكانته في قلوب الناس .

وكسب محبتهم واحترامهم، حتى أولئك الذين اختلفت معهم اتسم خلافك بالرجولة ولم تتبع أساليب الغدر وطرق الخداع، لقد كنت يا صديقي باختصار أحد الذين يزينون المكـان والزمان فمن ذا الذي سيزينهما ويمنحهما حضورك الطاغي - الساحر يا ترى؟ بإذن الله تعالى ستشفى يا صـديقي لأن دعوات محبيـك تظللـك من كل مكـان، لكي تعـود إلـينا أكـثر بهاءً وأغزر أملاً وكأجمل أنمـوذج للإنسـان المجاهـد الشـريف.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى