بمناسبة مرور أربعين يوماً على رحيل الشاعر والفنان والتربوي والمناضل عبدالله هادي سبيت

> «الأيام» د.هشام محسن السقاف:

> لا ينازع أحد في المكانة الإبداعية لقمندان لحج الأمير أحمد فضل بن علي، الذي حمل بجدارة راية التجديد في الموروث الغنائي، الذي ترافد في ضفتي الوادي تبن، وامتازت به الديار اللحجية عن سواها من الجوار، النازع إلى أهازيج وزوامل لا ترقى -حقيقة- إلى المستويات الجمالية للأغنية اللحجية كما تجلت بعد عهد من الصياغة وإعادة الصياغة اضطلع به الأمير الفنان أحمد فضل. ولندرك الآن أن عملية الاتكاء على الموروث الغنائي كما كان سائداً، وإعادة تدويره ومحاكاته وتطويره بالإضافات الموسيقية والمقدرة التطريبية الخارجة به من دوائر التكرار والرتابة إلى رحاب أفق موسيقي جديد يتواكب والذوق الفني الجماعي المتسم به إنسان سلطنة العبادل، عملية إبداعية معقدة، بعد أن تخطت السلطة كثيراً من مشاكلها في الربع الأخير من القرن التاسع عشر بازدياد دخلها من الضرائب على التجارة المنتعشة بين عدن المستعمرة والمناطق الشمالية، والمارة في أرضها السيادية، ناهيك عما توفره الزراعة من استقرار اجتماعي ونفسي ينعكس بكل تأكيد في الانفعالات الإبداعية شعراً ونثراً وغناءً، مع ما وفرته شخصية الحاكم ذات الميول الأدبية والعلمية نحو مزيد من الاهتمام بالتعليم والقضاء والفقه، وتوفير أجواء مناسبة للمثاقفة والسمر وتشجيع الشعراء والأدباء والفنانين بمقادير ونسب تتلاءم وظروف ذلك الزمان.

يقول الأمير الفنان عبده عبدالكريم العبدلي: «لحج تمتلك تراثاً فنياً شعبياً هائلاً قبل نهضتها والتشكل الجديد لأغنيتها.. وقد كان هذا التراث يتمثل في ألوان الغناء المختلفة فيها، مثلاً هناك أغان للحرب.. وهناك أغان للحصاد.. والزراعة والشراحة.. وهناك أغان للأعياد والأفراح ويوم عاشوراء.. وحتى الحزن والمآتم».(محمد بن ناصر العولقي، من تاريخ الأغنية في لحج وعدن وأبين).

ويزداد ألق هذا العبدلي المبدع حين يصنف طبقة المبدعين من رواد الأغنية اللحجية وتطويرها بعد القمندان بثلاثة كبار هم: الفنان المرحوم فضل محمد اللحجي والفنان المرحوم محمد سعد صنعاني والمبدع الكبير (المرحوم) عبدالله هادي سبيت، دون أن يضع نفسه في هذه الطبقة، بينما الأمير عبده وبكل جدارة أحد أولئك الذين «كان كل لحن يؤلفه أحدهم عبارة عن نقلة جديدة في الأغنية اللحجية» والقول لعبده عبدالكريم، بشواهد ما تركه الأمير الفنان من ألحان وأشعار ترقص الإنسان والجان.

يهمنا في هذا المقام التركيز على شخصية المبدع الكبير والشخصية الوطنية البارزة الفنان والشاعر والملحن عبدالله هادي سبيت - ونحن على تخوم أربعين يوماً من وفاته - فحري بنا أن نستعرض الأجواء اللحجية في ثلاثينيات القرن الماضي، حيث كان قد استطاع أحمد فضل القمندان أن يغرس الأحاسيس الجميلة غناءً لحجياً متميزاً في نفوس الصغار والكبار، بعد أن خرج من دائرة الصياغة اللحنية لكثير من الألحان التراثية التي ارتبطت فيما بعد باسمه، إلى دور الإشباع الفني للمتلقي بفضل فرقته الموسيقية التي خرجت على الناس مخرجاً جميلاً لم يألفوه من قبل، بفضل العبقرية الناشئة - أوانئذ - بين يدي القمندان وأعني الفنان المتميز فضل محمد اللحجي.

يقول الأستاذ والمربي الكبير عبدالله علي الجفري، في سياق تقديمه لديوان سبيت (الدموع الضاحكة): «كيف بدأ الشعر؟(يعني عبدالله هادي سبيت) لذلك قصة بسيطة: أن المرحوم الأمير أحمد مهدي بن علي كانت له جلسات وسمرات في خلوته (الغرفة المنفردة في أعلى البناية) وكان ذلك حوالي 1936، وفي تلك الأيام كان الأمير عبدالله بن عثمان سلطان الفضلي حالياً نازلاً ضيفاً عليه في لحج، وكان المجلس يضم دائماً الشاعرين الأستاذ المربي المرحوم حسن أفندي والشاعر مسرور مبروك، وكانت تثار بينهما مساجلات شعرية، وكان والد شاعرنا يحضر هذه الجلسات ويصطحب معه ابنه (عبدالله) الذي كان فضولياً، إذ كثيراً ما أراد أن يجاري الشاعرين فيسكته والده.. ومن ذلك الحين أحس الشاعر بقوة عنيفة تدفعه لأن يقول الشعر» (ديوان الدمـوع الضاحكة - المقدمة).

لا شك أن البيئة قد طبعت الأفراد بطباع تتناسب والسائد فيها، ومع أن الموهبة الإبداعية شيء غرائزي في الإنسان، إلا أن المؤثرات الخارجية تلعب دورها التكاملي في التنشئة والصقل والبناء، وبالتحديد في حالة شاعرنا العملاق عبدالله هادي سبيت الذي ما كانت لتنفتح له كل الأبواب دون معارضة من والده، الذي وإن كان مصنفاً في دائرة الأدباء في زمانه - كما سنعلم فيما بعد- إلا أنه قد سلك سلوك الشاعر الجاهلي زهير ابن أبي سلمى مع ولده كعب في تقصي الشدة والعقاب لمنعه من قرض الشعر خوفاً من عار أن ينسب قول المبتدئ بكل ما يكتنفه من قصور لواحد مثله معدود بين الشعراء الكبار.

فمن هو هادي سبيت حنق، والد شاعرنا الكبير؟

يقول الأمير عبده عبدالكريم: «كان -هادي سبيت- شاعراً وأديباً وصاحب حس جمالي عال.. إضافة إلى أنه كان رجلاً ذكياً ومتعلماً، ونتيجة لهذا وصل إلى أن حسابات السلطنة العبدلية كلها كانت في يده وقد عرفته شخصياً عن قرب وكانت لنا ليال من السمر والنقاش الأدبي، وتستطيع أن تقول إنني أعتبره مدرسي الأول» (العولقي، مرجع سابق).

فإذا كان هادي سبيت بهذه المكانة.. وبهذه الثقافة فحسبنا أن نتخيل العوامل التأثيرية الملائمة التي نشأ فيها عبدالله هادي سبيت في البيت وخارجه. أما الأب فقد كانت أحب الأشعار إليه اشعار ابن معتوق والشريف الرضي ثم المتنبي في الدرجة الثانية (المرجع السابق). وعلينا أن نفهم وجود المتنبي في الاهتمام التالي عند سبيت الأب لتولعه بالغزل أكثر من الحكمة. أما القراءة فتتجه صوب حديث الأربعاء لطه حسين ودراسة في شعر ابن أبي ربيعة (عبده عبدالكريم- المرجع السابق)، وعلى الرغم من هذا الولع الشديد بالغزل إلا أن هادي سبيت كان عازفاً عن الانخراط في مجال الغناء والعزف، ربما لاعتبارات تتعلق بطبيعة مهنته ومكانته الاجتماعية، مع العلم أن هذه الفترة قد شهدت ازدهاراً فنياً في الأداء والتلحين والعزف يتخطى المحظوظون به كل أسباب المنع الاجتماعي إن وجدت، ويتساوي الأمير والفقير في خطب ود الناس فنياً. أما سبيت الأب لأسبابه الخاصة فقد تمنى على ولده - الذي تشده حبائل الإبداع الأدبي والفني من مهده - الابتعاد عن جلسات السمر والغناء والمشاركة بكلمات، أو تعلم العزف على العود أو غير ذلك من أشياء الفن والشعر (عبده عبدالكريم).

إن الجموح نحو الشعر وهو ينبعث من نفس حساسة وقريحة متحفزة تأبى إلا أن تلتحق بركب المبدعين في زمانها، ومع إقرار الشاعر والملحن والفنان الكبير عبدالله هادي سبيت بالمكانة الأسمى لأحمد فضل القمندان صاحب الفضل في نهوض الغناء من رتابته وبدويته في لحج إلى مصافٍ متألق يواكب عصره ويمتد بأصالته التي تزداد ألقاً مع الأيام إلى عصرنا، إلا أن عبقرية عبدالله هادي سبيت تكون حيث يكون الخروج من عباءة القمندان حاملاً جينات التلاقح مع ذلك الفن الموروث ومتسماً بسمات مدرسة جديدة في الغناء اللحجي على رأسها سبيت والصنعاني وفضل محمد وعبده عبدالكريم، ولكل واحد من هؤلاء نسيجه الرائع في إطار المدرسة الغنائية الجديدة في لحج بعد القمندان.

إن الموهبة الأصيلة عند هؤلاء وهؤلاء من سلاطين الطرب وأمراء الشعر في لحج قد مكنتهم من تجاوز إرث القمندان الضخم، وتلمس مكانتهم الفنية دون اضطراب أو تقليد مسخ، ويذكر المتذوقون أن باكورة سبيت الإبداعية كانت (القمر كم بايذكرني جبينك يا حبيبي) ورغم أنها بكل ثوبها الجمالي القشيب الذي رفلت فيه واستحوذت على آذان وجوارح المستمعين، فإن سبيت لا ينكر أن لحنها قد استوحاه من أغنية شهيرة للقمندان مطلعها (ليه الجفا يا منيتي ليه الجفا)، فقد وجد نفسه منجذباً إلى تلك الأغنية، بل كان يبكي عندما يسمع المرحوم صالح عيسى يغنيها (دراسة لعبدالله علوي طاهر بعنوان: عبدالله هادي سبيت من الطفولة البائسة والنبوغ المبكر إلى الفن والإبداع)، ولكن شخصية سبيت الفنية تبرز من الآن فصاعداً بسمات مدرسة جديدة في الغناء اللحجي، مقوماتها التنوع والكثافة الموسيقية - إن جاز التعبير - التي تبرز بشكل أقرب إلى الملاحم الغنائية بعد نجاح منقطع النظير لأغنية «سألت العين» باكورة الفنان العندليب محمد صالح حمدون وبداية ثنائية فنية بينه وبين سبيت العملاق، وكأن سبيت يريد أن يتجاوز نجاح سبيت نفسه في «سألت العين» التي استحوذت على اهتمام الساحة الفنية في لحج وعدن رغم بساطة كلماتها وسلاسة لحنها. ومن المعلوم أن هذه الأغنية كانت إحدى الروائع التي قدمها سبيت بحنجرة ابن حمدون في موسم دعم الثورة الجزائرية على خشبات المسارح في لحج وعدن، وقد غنى حمدون لسبيت غيرها: والله ما فرقته، يابوي يابوي يابوي، ألا لما متى يبعد وهوه مني قريب، يا باهي الجبين، يا شاكي السلاح، وذلك في الفترة من 1957 حتى 1959م حين غادر سبيت أرض الوطن إلى مصر العربية نتيجة لمواقفه الوطنية الرائدة ضد الأوضاع القائمة ومناصرته للثورة العربية في الجزائر.

فالأغاني العاطفية والأناشيد الثورية الحماسية شكلت الذوق الموسيقي الجمالي للشعب اليمني، وتجاوزت شهرتها الأفق الوطني إلى كثير من البلاد العربية مثل:

1- القمر كم بايذكرني، من كلماته وألحانه. 2- نظرة من مقلتيها، من كلماته وألحانه. 3- سرى الليل وارامي شباك الهوى، من كلماته وألحانه. 4- حبيب ماشان، من كلماته وألحانه. 5- والله ما فرقته، من كلماته وألحانه. 6- يا الله بساعة هنية، من كلماته وألحان محمد بن محمد باسويد. 7- سرى الليل يا خلان، من كلماته وألحان فضل محمد اللحجي. 8- يابوي يابوي، من كلماته وألحانه. 9- يا حياتي والعدم، من كلماته وألحان اسكندر ثابت. 10 - وامطيروه، من كلماته وألحانه. 11- يا ابن الغرام، من كلماته وألحان عبده عبدالكريم. 12- ويا قلبي تصبر، من كلماته وألحان عبده عبدالكريم. 13- تذكر يا حياة الروح، من كلماته وألحان فضل محمد اللحجي. 14- يا عيدوه، من كلماته وألحان فضل محمد اللحجي. 15- لاوين أنا لاوين، من كلماته وألحانه. 16- اسري هاجري، من كلماته وألحان عبده عبدالكريم.17- يحسب انه بعيد، من كلماته وألحان عبده عبدالكريم وفضل محمد. 18- ريت الهوى باسويه، من كلماته وألحانه. 19- يا حاكم زمانه، من كلماته وألحانه. 20- ألا لما متى يبعد، من كلماته وألحانه. 21- يا باهي الجبين، من كلماته وألحانه. 22- إن كنت ناسيني، من كلماته وألحانه. 23- سألت العين، كلمات محسن صالح مهدي وألحانه. 24- ساعة تلاقينا، كلماته وألحان عبده عبدالكريم. 25- احبك والدموع تشهد، كلماته وألحان فضل محمد. 26- حبيتك، كلماته وألحانه. 27- بانجناه، كلماته وألحانه. 28- يا شاكي السلاح، كلماته وألحانه. 29- في سبب حريتك، كلماته وألحانه. 30 - با اهجرك، كلماته ولحن إسكندر ثابت. 31- والله أنه قرب دورك يا ابن الجنوب، كلماته وألحانه. 32- قال والله ابن هادي، كلماته وألحانه. 33- يا ظالم، كلماته وألحان اسكندر ثابت. 34- ممنوع تتبرع، كلماته وألحانه. 35- لا والله أنه من يقتل شهيد، كلماته وألحانه. 36- ضاع من ضيع بلاده، كلماته وألحانه. 37- جميل فيك كل شيء، كلماته وألحانه. 38- تذكر يا حياة الروح، كلماته وألحان فضل محمد، 39- مسك لي سيف، كلماته وألحانه. 40- حبيتك ونا ماعرفك، كلماته وألحانه. 41- أشرقي يا شمس، كلماته وألحانه. 42- بلادي بلادي اسلمي، كلماته وألحانه.

أما ثنائيته الفنية فتبرز جمالاً موسيقياً ولحنياً متميزاً في ثوب كلماته الغنائية مع الفنان الكبير وصاحب التجربة الرائدة في الغناء اليمني الأستاذ محمد مرشد ناجي الذي لحن من كلمات سبيت:

1- حبيب جاني عتابك، 2- يا حبايب، 3- هنا ردفان، 4- بيني وبينك كلام، 5- ياذي عشت في نارين، 6- ليه يابوي، 7- سألتيني عن هوايا، 8- وامطيروه، 9- أغنية القطن، 10- يا عيدوه يا عيدوه.

ناهيك عن الأغنيات والأناشيد الأخرى التي غناها صاحب الصوت الصافي محمد مرشد ناجي من كلمات وألحان سبيت، ولا يتسع المقام لذكرها الآن.

لقد عاش ابن سبيت بـ «همة عالية ومداس مقطع» ولا ضير في ذلك كما أحب أن يعنون دراسته القيمة الأستاذ جمال السيد، فيكفي أن تكون دموع ابن سبيت ضاحكة رغم كل شيء، ورغم تنكر الثورة له وهو رائد من روادها والداعم القومي لثورة الأشقاء في الجزائر في وقت لم يجرؤ كثيرون على قول الكلمة الرصاصة كما كان بن سبيت يفعل بشجاعة الأبي المقدام، وتجرع الظلم والملاحقة من سلطات الاستعمار، وعندما قامت الثورة وانتصرت تجاهل الحكام الجدد رائدهم في النضال، فعاش بائساً منكفئاً على نفسه في تعز الحالمة التي كانت ملاذه الآمن بعد أن خرج من لحج موئله ومسقط رأسه في بداية السبعينات، وعاش عيشة الكفاف لا ينظر إلى زخرف الدنيا ولا ينتظر ثمناً من أحد على رحلة عمر طويلة من الإبداع الحقيقي والفن الأصيل والأناشيد الثورية والنضال الصادق من أجل الوطن والشعب، فنام نومته الأبدية طاهر النفس راضيا عنها في ليلة من ليالي تعز الماطرة قبل أربعين يوماً من الآن. رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى