أكبر من الأوسمة و الملوك..أيّام عدنية 6

> ريم عبدالغني:

>
طوق الفلّ في الإناء الصغير ..يحوّل المكان غابة فلّ..هل أجمل من هذه بداية للنهار؟ ..أبتسم وأنا أتذكّر يدي أمي الطيبتين تعتنيان بشجرة الفل الصغيرة في شرفة بيتنا.. بحنان.. كواحد من أطفالها..ترن في أذني تحيتها الصباحية المفضلة «صباح الفل»...سأخبرها حين أعود..أني وجدته..«صباح الفل» ..هنا في عدن يا أمي ..

أجففه قليلاً ..لأضعه حول عنقي ..فأبقى طوال يومي محاطة بعبقه..

أحمل شوقاً أتعبني ..و أمضي إلى يوم جديد في عدن..

ندع الفندق خلفنا مستريحاً على الشاطئ الذهبي(جولد مور)..نمرّ قرب منتجع (العروسة) الجميل.. قبل أن نصل حي التواهي، الحي الحديث الذي اختاره الإنجليز ليكون الميناء (ومعنى اسمه مرسى البواخر) والعاصمة الإدارية والاقتصادية، خاصة بعد أن نقل إليها الكابتن (هينس)- أول مقيم سياسي بريطاني معتمد في عدن- مقر سكنه، ومن طريف ما قرأته عن هذا الرجل الذي عرف بالذكاء، أنه حين أشرف على فتح أول مكتب للبريد في المدينة عام 1839م، كان يدير الخدمة البريدية بواسطة عدّائين يدفع لهم بسخاء، وأما للبريد المهم أو العاجل،فقد اعتمد على استخدام الدواب.

أشرت بيدي متسائلة إلى ما بدا في قمة الجبل و كأنه ساعة (بيج بن) ولكن بحجم أصغر، هذه بالتأكيد (بيج بين الصغرى) أو (ليتل بن) التي قرأت أنها نموذج مصغر بناه البريطانيّون هنا في نهاية القرن التاسع عشر لساعة (بيج بن) اللندنية الشهيرة، وعلى غرارهم استنسخ الهنود عام 1904م، نموذجاً مصغراً لبوابة ميناء (بومباي) وبذات الطراز في بوابة ميناء «التوّاهي»(أُطلق عليه بدايةً اسم «رصيف أمير ويلز»)، وكأن اللوحة العدنية النقية، أغرت الوافدين دائماً بترك بصماتهم فوقها.

علاقة الانجليز بعدن وذكريات 129 عاماً من الاحتلال لم تنتهيا بالاستقلال وخروج بريطانيا من هنا قبل أربعين عاماً، وتحديداً في حي (التوّاهي)، هناك الكثير من آثار الإرث البريطاني القديم، الذي ترك بصماته حتّى على بعض سلوك العدنيين وعاداتهم، واحترامهم لمفاهيم الإدارة والنظام، ولا تخلو اللهجة العدنيّة من العديد من الكلمات الإنجليزية المحوّرة، ناهيك عن أماكن كثيرة لا تزال تحمل ذات الأسماء الإنجليزية القديمة، والزائر قد يلمح بضع سيارات لا تزال محتفظة- على الطريقة الانجليزية- بمقودها اليميني.

و يذكر العدنيون القدامى، أن الملكة (اليزابيث الثانية) ملكة بريطانيا العظمى أقامت وزوجها الأمير فيليب (دوق ادنبره) في فندق (كريسنت) في (كريتر)، حين قامت بزيارة (مستعمرة) عدن عام 1954م، في زيارتها التاريخية الأولى خارج الجزر البريطانية بعد تتويجها، وقد حضرت إلى عدن، التي كانت تشهد نقلة نوعية كبرى في تلك المرحلة، لافتتاح المصافي، وإلى جانب لقائها بالسلاطين والأعيان فقد وضعت الملكة حجر الأساس لمستشفى حمل اسمها (مستشفى الجمهورية حالياً).

بعد هذا كلّه لا يكون غريباً أن نقرأ أنّ المدينة، التي تحترم ذاكرتها، أعادت مؤخراً نصب تمثال الملكة فيكتوريا في حديقة حي التوّاهي (حيث نصبه البريطانيّون أساساً قبل أن يُنقل عقب الاستقلال إلى السفارة البريطانية بالتواهي).

وإذا كان ذلك التمثال يرمز-أمام العالم- إلى مرحلة مشتركة من تاريخ عدن وتاريخ الإمبراطورية البريطانية العظمى، فأنا شخصياً، أراها -من زاوية أخرى-مجسّدة في صورة، احتفظت بنسخة منها فوق مكتبي، صورة الملكة (اليزابيث الثانية) ملكة بريطانيا العظمى مع السيد أبو بكر بن شيخ الكاف في الموقف التاريخي الذي سجّله لعدن الصغيرة أمام التاج البريطاني العظيم، حينما رفض الانحناء للملكة -حسب التقاليد البريطانية- لتقلّده وسام الفروسية تقديراً لخدماته في تعبيد الطرق في حضرموت (وهذه واحدة فقط من كثير من الخدمات الجليلة التي عرفت من زياراتي لحضرموت أن عائلة الكاف الكريمة قدّمتها في الوادي)، معتبراً ذلك نوعاً من التذلل الذي لا يجوز لغير الله ولا يليق بالكبرياء اليمني، ورضوخاً من الانجليز لإصراره، تم وضع كرسي صغير أمام الملكة، أسند النبيل الحضرمي ركبته عليه، كي «يبدو» في وضع الانحناء عند تسلّمه الوسام، و كلما دققت في الصورة التي خلّدت موقفه المشرّف بعد نصف قرن، أراه في وقفته تلك أكبر من الأوسمة والملوك.

أنهي حديثاً طال عن عدن هنا...و أكتفي ببضع الأوراق التي اخترتها لكم -على مدى الحلقات الخمس الماضية - من مفكرة رحلتي إليها...

عبثاً حاولت التمرّد على سطوة سحر (مرسى القلوب) لألتقي به بموضوعيّة باحثة، وكيف يستطيع المرء أن يتعامل مع (واحة المحبة) من دون أن تغلبه المشاعر...؟ أعترف بأنني عجزت عن رؤية عدن بعيون محايدة.. كما سأعجز دائماً عن كبح جماح حزن يحتلني منذ لحظة وصولي إليها، إذ أقترب من لحظات مغادرتها... التي لم يُطاوعني على تسجيلها في مفكرتي .. لا قلبي.. ولا قلمي.

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى