أردوح .. الزعيم الصومالي الذي قرأ مرثيته

> فاروق لقمان:

> كان الشاب الصومالي الأصل العدني المنشأ تلميذ مدارس المستعمرة البريطانية زميلاً للأخ علي محمد لقمان في مدرسة البادري، ويتردد على دار «فتاة الجزيرة» منذ يفوعته ويسلم على الوالد ويقضي بعض الوقت معهما ومع الآخرين من زملاء المدرسة وحافة حسين والعيدروس، ومنهم السيد حامد محمد الصافي والأستاذ يوسف السعيدي عافاة الله، والأديب عبدالله الطيب أرسلان (مؤلف «يوميات مبرشت») وعبد الله علي بازرعة وعلي عبدالله باصهي والإخوان عبدالرحيم وإبراهيم وحامد لقمان.

وقد تعرفت على الأستاذ محمود جامع أردوح رحمه الله عند زيارتي مع الوالد عام 1950 إلى بربره الميناء المواجه لعدن ثم هرجيسه فيما كان أهل عدن يطلقون عليها (بلاد أو بر الصومال) ويعنون به الشطر الشمالي من صوماليا الممزقة حالياً.

كان محمود في مقتبل العمر آنذاك مما يعني أنه لو عاش حتى اليوم لكان في التسعين في سن الأستاذ السعيدي إلا أنه توفي بعد بلوغه الخمسين وهو في أوج شهرته كسياسي وصحفي كما سيرد.

فقد كان رحمه الله صومالياً ثائراً على الاستعمار البريطاني الذي كان مهيمناً على الشطر الشمالي، بينما كانت إيطاليا مسيطرة على الجنوب وعاصمته مقديشو واحتلت فرنسا جيبوتي. ومع أن محمود كان يتحدث العربية والإنكليزية بطلاقة تامة ظل حتى نهاية عمره يفضل الحديث باللهجة العدنية الأصلية - لهجة حافة حسين والقطيع والمعلا والتواهي والشيخ عثمان إلى دار سعد سابقاً. كذلك كان يفعل سكان بربره وهرجيسه. لذلك لم أكن بحاجة إلى التحدث مع الناس بأي لغة كانت ولم يكن والدي يلجأ إلى الصومالية إلا نادراً لأن اللهجة العدنية كانت سائدة في معظم أرجاء البلاد.

وخلال إقامته شبه الدائمة في عدن ظل محمود على اتصال وثيق بصومال عدن وناديهم الشهير المواجه للاستاد الرياضي الذي كان أحد معالم كريتر، وأيضاً في مبرز الصومال بحافة حسين فقد كانت عدن تكاد أن تكون امتداداً لبر الصومال، لذلك يسرت لمحمود نشر الوعي السياسي بين أقرانه ثم جهاده في محاربة الاستعمار بالوسائل السلمية متمثلاً بغاندي الذي لم يحمل سلاحاً قط.

واستفاد رحمه الله من صحافة عدن فكتب كثيراً يحث الصومال على المطالبة بحقوقهم المشروعة طوال الخمسينيات ويقض مضاجع البريطانيين الذين اعتقلوه في سجن (لاس عانود)، وإمعاناً في إذلاله أرغموه على تنظيف حدائق الحاكم الأبيض وريها كما شاهده الوالد عندما طلب إذناً لزيارته عام 1955 في محاولة للدفاع عنه بينما كان في رحلة إلى هرجيسه التي كانت ولا تزال تتمتع بجو ربيعي دائم - عكس بربرة الساخنة - نظراً لارتفاعها عن سطح البحر، والمعروف أن هرجيسه اليوم عاصمة الشطر الشمالي المنفصل عن الجنوبي المضطرب، وله حكومة مستقرة غير معترف بها دولياً بالرغم من مرور عدة أعوام على انهيار الحكومة المركزية في مقديشو.

وظل محمود في المعتقل إلى أن استقلت الصومال عن بريطانيا وإيطاليا في يوم واحد وقرر الشطران الاندماج في دولة واحدة سمياها (صوماليا) ظلت مستقرة نوعاً ما حتى سقطت حكومة مقديشو بانهيار رئاسة سياد بري الذي توفي بعيداً عن العاصمة.

ولما تدهورت الأوضاع أعلن الشطر الشمالي الاستقلال وانهارت صوماليا الأصلية بالكامل.

وصلتُ مقديشو من نيروبي - كينيا - بطائرة داكوتا تابعة لشركة (إيدن أيرويز) التي كانت ملكاً للشركة البريطانية للطيران التي حولت اسمها بعد ذلك إلى برتش ايرويز، ولما استقل الشطر الجنوبي اليمني أسس الأخوة الأكارم آل باهارون - زين وعيدروس وأشقاؤهما- شركة سموها باسكو كان يمكن أن تصبح نواة لشركة طيران رائعة لو لم تؤمم وتصادر في ليلة واحدة بدون أدنى تعويض للرواد من آل باهارون الذين أصيبوا بصدمات عديدة أدت إلى وفاة السيد زين بنوبة قلبية قاتلة ثم لحقه بعد قليل أخوه عيدروس بمرض مماثل.

رجوت الإعلام الصومالي أن ينظم لي زيارة للسيد محمود جامع أردوح، وزير السياحة ومستشار الحكومة رغم أنه كان زاهداً في المناصب الرسمية مع حرصه على مساندة الحكومة الفتية ومصمماً على إنشاء جريدة يومية إذا نجحت محاولاته في الحصول على مطابع حديثة كجزء من المعونات الخارجية لبلاده. إلا أنه تكرم بالقدوم إلى مقر سكني في العاصمة لأنه حسب قوله كان لا يزال يعمل لبناء مكاتب للسياحة والإعلام بعد أن ترك الإيطاليون البلاد بدون بنية أساسية تستحق الذكر.فقط كان هناك فندق حديث بنوه على عجل اسمه (شبيليه) لاستقبال ضيوف الحكومة في حفلات الاستقلال.

لكن إقامة محمود في الحكومة لم تطل، إذ كان يتوق إلى العودة إلى عدن لنشر جريدته الأسبوعية التي كانت تصدر عن دار «فتاة الجزيرة» في بداية الخمسينيات ولا يود البقاء في مناصب الدولة الوليدة. إلا أنه لم يوفق في مسعاه وأقنعته الحكومة بالعودة إلى هرجيسه حيث التقيته مجدداً عام 1964 في زيارة صحفية بدعوة رسمية رافقني فيها إلى بوروما.

ثم واصلت الرحلة وحدي إلى زيلع (ولوي عدو) الحدودية المتاخمة لجيبوتي. لكنه كان قد توقف عن الكتابة واقتنع بتقديم المشورة لحكومته الموحدة قبل أن يغادرها إلى عدن ثم لندن.

ولما كان في لندن وصلتنا أنباء «غير دقيقة» كما قال أحد رؤساء بريطانيا عندما أشيع نبأ موته خطأ، ورثاه صديقه الشاعر علي محمد لقمان بقصيدة عصماء وهو لا يزال على قيد الحياة، كما نشرت جريدة الصومال الصادرة بالإنكليزية نبأ وفاته المزعوم بالبنط العريض تحت عنوان (انطفاء نور صوماليا).

ولما قرأ محمود القصيدة والخبر قال «الآن سأموت مطمئناً بأن الناس لن ينسوني».

وبعث ببرقية شكر لصديقه الشاعر مؤكداً له أن خبر وفاته كان «غير دقيق» لحسن حظه. لكن المنية وافته بعد ذلك عام 1975.

قال الشاعر في القصيدة التي قرأها أردوح قبل وفاته:

نعى الأثير إلينا خبر محمود

أخا الوفاء، وصنو الفضل والجود

مجاهد من سيوف الحق أغمده

حق يجيء على كل الصناديد

وفرقو من بني الصومال أرقه

أن البلاد بلا حرية تودي

دعاه - والظلم يستشري به- وطن

فكان أروع من لبى ومن نودي

سجلت في صحف (الصومال) مآثره

أسمى المآثر عندي نيل مقصود (يعني الحرية)

ترش بالماء طيناً كان مغتصباً

ياما رششت دماً في «لاس عانود» (موقع الحبس)

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى