جمهورية دثينة (4)

> ريم عبدالغني:

>
هل سمعتم بجمهورية (دثينة)؟، لمن لم يسمع بها، فهي أصغر مكان أطلق عليه اسم جمهورية في الوطن العربي، بل ومن أوائلها، وهي-باسمها الحالي (مديرية مودية)- جزء من محافظة أبين اليمنية، وتبعد عن عدن حوالي 130 ميلاً . و(دثينة)- التي احتفظت باسمها التاريخي القديم منذ العصور الذهبية لتجارة جنوب شبه الجزيرة العربية وذكرها الهمذاني، لم تخضع أبداً لحاكم مطلق، فبحسب نظام الحكم فيها لعدة عقود، كان رؤساء القبائل جميعاً -والمختارون أصلاً بالشورى- يشتركون في تسيير شؤون الحياة فيها، ولذلك، في عام 1942م، بعد أن بسط البريطانيون نفوذهم على دثينة، أطلقوا عليها اسم (جمهورية)، ثم ولاية، ولحل مشكلة من يمثلها في علاقتهم بها، شكلوا لها (مجلس دولة) من رؤساء القبائل والعشائر والأعيان .

بعد العرقوب-حيث توقفنا المرة الماضية لنودّع البحر- انحدرت بنا السيارة نحو (جحين) و(مصره)، تلال ووهاد..صعوداً وهبوطاً، وأنا أتابع التقاط الصور في المحطات المختلفة.

من السوق الشعبي لبلدة (امعين) الصغيرة جلب لنا محمد عنقود (قتب) من موز أبو نقطة المحلّي، أسكتنا بمذاقه الحلو جوعاً بدأ يستبد بنا، خاصة وأننا لم نتناول الإفطار من فرط لهفتنا للسفر.

لمحت من بعيد عموداً من الدخان الأبيض الطويل، يدور متسعاً من الأسفل للأعلى، اعتقدته دخان حريق ..أو ربما إعصار، تضاعف قلقي وأنا ألمح إعصاراً صغيراً آخر بعد مسافة صغيرة من الأول، ثم هدأت بعد أن علمت أنها ظاهرة معتادة في المنطقة هنا، ربما يرتبط تفسيرها العلمي بالتيارات الهوائية، والأهالي يسمّون هذا الإعصار المسالم الصغير «كوس».

الطريق شبه قاحلة في هذا السهل، فأمطار أبين تكثر باتجاه هضبتها شمالاً، حيث الأراضي الخصبة سيما لزراعة القطن، المحصول الأساسي، وعن هذا يقول الرئيس الجنوبي الأسبق علي ناصر محمد في كتابه (الطريق إلى عدن): «تعتمد الزراعة في دثينة على مياه السيول النازلة من أعالي الجبال والروابي، وقد اعتاد السكان في مواسم الجفاف، أن يلجؤوا إلى قاضي قرية (امقوز العلّامة حسين درّامة)، لإقامة صلاة الاستسقاء طلباً لنزول الأمطار، التي تهطل في مواسم النجوم، ولها أسماء معروفة وأيام معدودة عند الفلاحين، ولها حصتها في تراثهم المتناقل عبر السنين من الأهازيج:

ألاّ وين امبشر يبشرني بسومش (أين المبشر بعلامات قدومك أيها المطر)

ألاّ يا جربة الخير هذا اليوم يومش ( يا أرض الخير هذا يومك)»

و يضيف: «أما أجمل الأيام والليالي، فهي في موسم السيول التي تتدفق هادرة من جبل وجر بن ناصر وشعابه الـ 360، تنطلق كاسرة في طريقها العبارات والمصدات (السوم والعبر) التي أعدها السكان خصيصاً لإيصال المياه إلى الأراضي الزراعية، وطالما رددوا في انتظارها:

ألا يا ليلة النور خيلنا مخيلة (انتظرنا المطر من السحب)

ألا يا لله على وجر دي يعجّل بسيله ( استعجال للسيول على جبل وجر)

على كل فنحن في أوائل ابريل، وموسم السيول لن يأتي إلا بعد أشهر.

تجاوزنا قرية (الخديرة)، وتوقفنا بعدها في منطقة (القشابر) لالتقاط صورة لجبل (امحمرا) العالي بشكل قمته الملفت للنظر، تبدو كنحت غريب مدبب عظيم الحجم يحمل بقايا نقوش من غابر الأزمان.

أخيراً، وصلنا مودية، أول ما يلفت نظرك هنا، التضاريس الخاصة للغاية، خلفية هائلة من الأودية والجبال العملاقة، مشهد تلك اللوحة الخرافية المرسومة قبل التاريخ، بألوانها القاسية وأحجامها الضخمة، حفر في رأسي للأبد. ومودية أصلاً تعني الأودية، وقد حلت الميم محل الألف، كون أداة التعريف في لهجة دثينة وكثير من مناطق اليمن، هي (ام) بدلاً من (ال) المستخدمة في اللغة الفصحى، واليمنيون يفخرون بأن الرسول صلى الله عليه وسلم، استخدم طريقتهم هذه في حديثه المعروف: «ليس من امبرّ امصيام في امسفر». ما زال معظم بيوت مودية يحمل طابع البساطة الأوّل المتأثر بالحاجات الدفاعية (كالنوافذ الصغيرة)، لا تتميّز بينها إلا أبنية قليلة، كمقر الحاكم البريطاني، مبنى السجن القديم، وبيتين كبيرين متجاورين لعائلة آل الظهر وسط البلدة، يعودان إلى أكثر من نصف قرن مضى، وربما كان الطراز المختلف المعتنى بتفاصيله هو ما أوحى بتسميتهما المتداولة «بنجلة» (الفيلا الجميلة بالهندية)، وأشهر آل الظهر الشيخ المتنور محمد سعيد الظهر رحمه الله الذي يذكر الناس دوره الهام في نشر التعليم وإتاحته للبنات، مهمة لم تكن سهلة يومها بالتأكيد، وكذلك دوره في تشجيع العمل بالزراعة (لا سيّما زراعة الخضار والفواكه التي لم تكن شائعة حينها) وحفر الآبار بدلاً من حمّى السلاح، وموعده الأسبوعي -كل جمعة- مع الفقراء يوزع عليهم المساعدات، كان بعض هذا الإشعاع انعكاساً لوهج عدن، المدينة التي عشقها الكثيرون من سكان مودية وهاجروا إليها (سكن معظمهم حافة البدو في حي كريتر).

أتوقف هنا اليوم، والبقية - بلهجة أهل دثينة- في امحلقة امقادمة.

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى