> «الأيام» كفى الهاشلي:

ازدحام صنعاء مساء
مع قصيدة المساء لخيل مطران رحلنا مع الذات في عدد من الساعات، جمعت مجرياتها فوجدتها تقارب الأربع وعشرين ساعة، فوقفت على لحظات هذا العمر الذي يمر في طريقه للغروب دون أن نشعر ولنحكي حديثا عن مدينة امرأة وعائلة ولمحات من واقع اجتماعي وصورة ذاتية. فأن تُقرر السفر بغية إعطاء النفس حقها ومستحقها في وعد قد قطعته معها ذات يوم هو أمر عادي تجاه ما فرطت معها وما قابلتها به من إهمال، لكن المعالجة تظل قطرة ماء في بحر المعالجة والوفاء لتلك النفس. وهذا ما حدث معي في رحلة كما قال مطران:
إني أقمت على التعلة بالمنى
في غربة قالوا تكون دوائي
عبث طوافي في البلاد وعلة
منفاي في منفاي لا استشفائي
غير أن الفارق بيننا هو البحث عن الوفاء للنفس معي، وبحثه عن تخفيف معاناة الهوى في قلبه فذهب ليخفف العلة في سفره فوجد الرحيل عن موطن الحبيب يزيد معاناته، ووجدت نفسي أطالع مدينة وأحمل أمانة امرأة وأتمازج مع غروب يوم أوقفني كما أوقف مطران ذات يوم متفردة بإحساسي بالألم ورخص الحياة التي نتعلق بها ونتكالب عليها بعضنا فوق بعض ونحقد ونحسد دون أن ندرك فناءها بل ونتجاهله.
رحيلنا إلى صنعاء كان يحمل هدفاً شخصياً لكن الوقائع فرضت نفسها، فاحياناً يكون الرحيل شفاء للنفس من الكربة والهم والعلة، ولكنه قد يزيدها عند تكرار المشاهد المؤلمة وتعاظمها.. ومع حبيبة (امرأة من مقديشو وتنحدر من جالكعير وتعيش في البساتين حالياً) كان لنا لقاء فهي الأخرى جاءت إلى صنعاء بحثاً عن الامل في الحصول على فيزا للسفر الي بريطانيا لعلاج الورم الذي مضى عليه زمن بعد إجهاضها في الصومال من بعض الإسلاميين، وكانت تتحدث بلغتها التي ما فهمت منها إلا ما يترجمه مرافقها، فحملتنا نقل رسالة للمختصين لمنحها فرصة العلاج فما عاد في مستطاعها الصبر على الآلام وكفاها ما خسرت في حياتها من زوج ومنزلين وسيارةومطعم وطفل رحل قبل أن يمنحها إحساس الأمومة .. تحملت أمانتها، وهي حمل صعب وثقيل زاد من همنا في الرحلة التي يبدو أننا وجدنا من يشاطرنا معاناتها.
ساعات قضيناها في الغربة رغم الكم الهائل من الناس في صنعاء - إنها اجتماعيات عدن وعزلة صنعاء- ففي عدن احتكاك وتعارف وتآلف بين أبناء الحي الواحد وقد تمتد إلى الحواري المجاورة، وعزلة وانطواء ومتاهة قد تشعرك بأنانية من حولك في صنعاء.. تركب بعض التاكسيات ويتضح أن سائقها لا يعرف المكان بعد أن يكون قد هز رأسه بنعم أعرف!! وقد يعرفه ولكنها فرصة يغتنمها من زائر غريب لا يعرف الطريق وكسب جيد في لحظة قلة المعرفة، ولو تركنا مسألة الاستنفاع وانطلقنا للسؤال عن شخص بعينه لحفينا مرات ومرات ونحن نجوب الشوارع بحثاً عنه دون أن يدلنا أحد، لعله الخوف من الثأر أو لأسباب أخرى لا نراها مبرراً في نظرنا، وتقل هذه الظاهرة في صنعاء القديمة فهناك بين الناس من يتحدث معك ويدلك على الطريق، ومهما تهت في أزقتها تظل مطمئن القلب فيها.. عدت لحديث النفس التي عاتبت الناس في عدن حين انشغالهم عن البعض لأجد صنعاء يتضاعف بها من تسول له نفسه الحيلة والخداع وإرهاق الغير.

منظر لصنعاء القديمة
يوم آخر وساعات جديدة دلفنا فيها إلى باب اليمن .. فهناك الباعة رجال ونساء وأطفال، وتتمدد المنتجات التقليدية والحرفية واليدوية والزينة، والحناء هو أول ما يطالعك من المبيعات فور الولوج في المكان.. زحمة لم يمنعنا عن اقتحامها شيء.. تخطف أنظارنا السلع وتتجاذبنا كلمات طلب الشراء، وتغازلنا حين آخر كلمات الموجودين.. وبين كل تلك الزحمة التي تشعرك بأهمية المكان وحلاوته وجدنا الإقبال يخط كلمات تبيّن أن التواجد يعني التفرد والانتصار على تقاليد القيود خاصة للنساء بائعات ومشتريات وسائحات.
ومن براءة الأطفال الذين يجوبون المكان لبيع معروضاتهم أو يفترشون الأرض مع أهاليهم، ومن نداءات النساء البائعات وبريق الفضيات الرائعة، صعدنا إلى أعلى مكان في صنعاء القديمة (أعلى فندق السلام)، وأمعنّا نظرنا في معالم هذه المدينة الرائعة ومتنفساتها الخضراء وسط المنازل الرائعة التي تتشابه في اللون والطراز والحجم الصغير لأبوابها حيث ينحني الداخل عبرها وكأنه يبجل ما صنعه الأجداد، وتعتلي مجالس القات قمم المنازل، أما أدوارها السفلى فتخصص لحيواناتهم.
لا حراك ولا ضجيج، ولا يعلو على صوت المآذن أو أهازيج الفرح شيء على عكس شوارع صنعاء كالزبيري والتحرير التي تعج بالفوضى والضجيج وكل شيء تسمعه وتراه يشعرك بهرولة كبيرة تجاه الحياة بعكس صنعاء القديمة، التي تدخلك في حضنها نغمات النسيم وهدوء المكان وبشاشة الوجوه وبراءة الأطفال ورقي المعاملة.
في (التحرير) يطارد الجراد وتحديدا في ساعات المساء يتهافت الأطفال والشباب على الجراد، حيث يقومون بجمعه في قناني الماء الفارغة ويتم بيعه على المواطنين المحبين لاكل الجراد.. مشهد تعجبنا منه، ففي حين يطارد الجراد الأشجار ويلتهمها في الأرياف، في صنعاء يطارد البشر الجراد لإعداده لوجبة شهية.
في مشوار آخر من منطقة عصر، متنفس العائلات، اتجهنا إلى بني مطر حيث يتسلسل لون الأرض بالخضرة ويدغدغ مشاعرنا العشق لجمال الطبيعة والرغبة في العزلة عن العالم والزحام.
وكان هدفنا شلال بني مطر.. سرنا إلى هناك وعلى جنبات الطريق وجدنا مدرجات كسلم موسيقي تأقلم فيه لحن الوتر (الهواء) مع صوت الشاعر (المطر).
وبرزت قصيدة خليل مطران المساء مجددا لتذكرني بالرحلة التي قام بها قاصداً العلاج وتحديدا مع لحظات الغروب ووداع الشمس لنا في منظر يحرك ما فينا من مشاعر رائعة، ويؤلمنا لما في الحياة من متاعب يخلقها بنو البشر غير مدركين أن كل رائع مصيره الرحيل.. لحظات لم يوقفها إلا الحزن على حرماننا من مشاهدة روعة الشلال، وكان عطل السيارة سبباً أوقفنا ما يزيد عن الساعة والنصف.. ووقفت على صخرة وأنا أتألم من عدم مقدرتي على رؤية الشلال الجميل والتمتع بلحظات الغروب في قمة منحدر الشلال، فتكدر مزاجنا وتفكرنا بذاك اليوم وغروب شمسه ودفعنا للعودة للحديث مع النفس عن الرحيل كما قال مطران:
يا للغروب وما به من عبرة
للمستهام وعبرة للرائي
أوليس نزعا للنهار وصرعة
للشمس بين مآتم الأضواء
ولقد ذكرتك والنهار مودع
والقلب بين مهابة ورجاء
وخواطري تبدو تجاه نواظري
كلمى كدامية السحاب إزائي

الأطفال يشاركون الكبار في البيع
وغادرنا بعد ساعة ونصف من البرد والتفكير والأمل في الخروج من عزلة المكان قطع أفكار الرحيل للعمل في ما بقي من العمر.لم توقفنا في رحلتنا إلا ذمار.. بمشاهد الخضرة والمطر وجمال الطبيعة وسحر المباني. رغم الخطر الذي تحتضنه وتخبئه مساحاتها المغطاة بالألوان الحمراء والزرقاء والصفراء والخضراء والبيضاء، وكأنها طرحة عروس اسمها (القات) تزف إلى سوق ستجلب منه أعلى المهور بعد تفريغها لجيوب المشترين وسلبها لصحة الجميع.. هذه أهم المعضلات في بلدنا اليمن، حين يشتد الجوع وتسحق الأراضي لأجل القات ومنافستها للحبوب المختلفة التي ما عادت المتاجرة بها أمرا يعني الكثير.
وختمنا الرحيل بهذه الزفة لقافلة العرائس إلى المصير غير المأمول وبطرحة تحمي القات من صقيع البرد والمطر .