فوق «جب» «الحصن» (8)الأخيرة

> ريم عبدالغني:

>
قبل مغادرة قرية «امفرعة» ، و نزولاً عند رغبة أبي محمد ،تحركنا لنزور «البيت الجديد» القريب المشيّد من الاسمنت ، جالوا بي بفخر في القاعات الواسعة والحمامات المكسوّة بالسيراميك، أدهشهم ربما أن أمرّ بسرعة على هذا «الإنجاز» الحديث ،تمهّلت في الشرفة، منها .. تعلقت عيناي بالبيت القديم بجانب الحصن ،أحب أن أتملّى به ، يكاد ينطق ذلك البيت الذي يخزن بين أضلعه الذاكرة والأصالة ، تزوّجت بساطته البيئة والمكان والمناخ ..فانبثق كنبتة من روح الأرض ليشبه كل ما حوله، سيمضي زمن قبل أن يدركوا قيمة ما يستبدلون به بناءً مستورداً غريباً عن محيطه.

محمد ينحني ليقطف غصناً صغيراً من نبتة خضراء قصيرة، يُقدمها لي لأتذوق طعمها المميز المائل للحموضة، و «أرناق» نبتة برّية يعرفها الرعاة أكثر من غيرهم، إذ تنبت بكثرة فوق جبال دثينة ، سيّما عقب هطول المطر، و لأنها كانت وسيلة لسدّ الجوع أيّام القحط ، ما زال أهل المنطقة يعتبرونها هدية سماوية طيبة المذاق.

وعلى ذكر النباتات ، ربما لم أخبركم أن ملكة الأشجار في دثينة هي شجرة السدر( العلب) المتعددة المنافع، تراها في كل مكان،لا تُقطع إلا للضرورة القصوى، يصنعون من خشبها الأواني وأدوات الحرث و الأمشاط و الأبواب والنوافذ الجميلة و الأسقف التي تعمر طويلاً، و من أوراقها يستخلصون مطريات الجسم والشعر..

و من العلب يصنعون كذلك معاصر السمسم (الجلجل)، يدور بها جمل معصوب العينين، لاستخراج «السليط»، الدهن الوحيد الذي يستخدمه الفلاحون في معظم وجباتهم، ومن بقايا السمسم يأتي «العُصّار» الذي يحب البعض أكله، و يذهب في أيام الخير علفاً للحيوانات ،و في أمثالهم الشعبية يقولون «جمل يعصر.. وغيره يأكل العُصّار»، يُضرب لمن لا يعمل ويعيش على جهد غيره..و ما أكثرهم في كل زمان و مكان.

قرأت الفاتحة مرات عديدة، على قبر والد العائلة الكبير عم «ناصر» رحمه الله ، أداءً لأمانة حمّلني إياها أحباب له بعيدون ، لم أعرفه أبداً بيدَ أنني سمعتُ الكثير عن ذلك الشيخ الجليل المعروف بحكمته و كرمه، و بابه المشرع دائماً للزوار و عابري السبيل، و ماذا يبقى بعد أن يرحل المرء إلا ذكرى أعماله الطيّبة ، الحقيقة الأكيدة بعد انتهاء حياتنا-الحلم ، و قد لخّص أحمد شوقي أمير الشعراء هذا المعنى بقوله :

احفظ لنفسك في حياتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثاني

وكأن الحزن ينتظر أي فرصة لينفلت من داخلنا، مستدعياً شجوننا المختبئة في حنايانا العميقة ، وجدته دموعاً تناثرت فوق عباءتي السوداء ، و مر زمن قبل أن تردّني يد أبي محمد على كتفي إلى الواقع، تمالكت نفسي و قد اقترب أوان الرحيل ، ولكن هل قبل أن نزور المسجد الذي يحمل اسم الوالد ناصر رحمه الله؟، استنشقت وأنا أدخله عبق عشرات المساجد التي زرتها في تريم ، تريم ..كم أتوق إليها! ، أستحضرها في كل مسجد أدخله..في أي مكان من العالم .

حول السيارة اجتمعوا لوداعي،ما أصعب الوداع ،كأنني عشت بينهم سنين بطولها ، و من بين بعض أطفال القرية الذين التفّوا حولنا ، لفت نظري فتاة لا تتجاوز الثامنة، كانت تتأملني بفضول، شعرها غارق في غمامة بنيّة محمرّة من الحنّاء ، بَحَثَتْ يدي داخل الحقيبة عن آلة التصوير لالتقاط صورة للمشهد الطريف، لكنّها هربت كعصفور من فوق الغصن..و تعالت ضحكات الأطفال الذين وجدوا ذلك مسليّاً.

أسأل عم محمد أن يتوقف عن رصّ العسل والتنباك والسليط في صندوق السيارة،كيف سأحمل كل هذه الأشياء معي على الطائرة يا عم محمد؟ لكن الكرم اليمني لا يصغي لأي اعتراض.

«على بركة الله» ... أبو حكيم وراء المقود، نستهلّ طريقنا إلى عدن... يدي تلوّح من النافذة، وملامح «امفرعة» و تعابير وجوههم الطيبة تتلاشى وراء الدموع...

نولي ظهورنا لجبال «فحمان»، و نعبر من جديد أودية «مرّان» و«كبران» و«عرّان» و«حسّان»، ابتسمت و التداعي يقودني إلى تشابه إيقاعها مع اسم ابنتي «ميسان» ، من شابه «بلده» فما ظلم، ليتها رافقتني لترى قريتها الأصل وتتلمس الجذور ، ابتسمت وأنا أتذكّر إلحاحها على أن التقط صوراً كثيرة إرضاءً لتشوّقها ،كأنّها تحنّ بالفطرة للمكان الذي عاش فيه أجدادها، رغم أنّها لم تزره قط ، كم تذهلني تلك الخيوط الخفية لعوالم تفوق إدراكنا ، تومض من حين إلى آخر ، و ها أنا قد نفذت طلبك يا صغيرتي.. لكن-للأسف- لن توصل كل الصور فيض المحبة والدفء الذي أُحطت به في قريتك البعيدة.

بكيت طويلاً في طريق العودة...ربما و قد أيقنت أن جزءًا مني قد انسلخ..ليبقى أبداً هناك ...

أغلق دفتري و أعيد الصور المبعثرة و أوراق الملاحظات إلى مكانها بين دفّتي الملف الذي احتفظت فيه بكل ما يخص رحلتي إلى أبين في أبريل الماضي..

ألتقط قلمي..حبره أزرق مخضرّ بلون البحر كما بدا ذلك اليوم من فوق العرقوب... و بخط يحمل انحناءات الطريق الطويل بين عدن و دثينة، أكتب فوق غلاف الملف:«أبين.. مزيد من الإغراق في عشق اليمن».

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى