الشاعر الكبير الدكتور (مبارك حسن الخليفة) .. في معزوفته الرائعة «الوطن»

> «الأيام» أديب قاسم :

>
عدن هواها قد تملَّك مهجتي

إني عشقت ربوعها وسماها

والناس والقمر المنير وبحرها

وجبالها الشماء وطيب ثراها

بالحب هدهدت الفؤادوها أنا

بالحب قد نلت المنى ورضاها

بالحب ذللت الصعاب ولن أعش

إلا محباً عاشقاً تيّاها

وشوشت في الخرطوم ذوب مشاعري

فانساب في الخرطوم بوح نداها

وحكيت للنيل الحبيب صبابتي

فسمعت في الشطين صوت غناها

النيل عوّدنا وبارك حبنا

ودعا فؤادي للهوى ودعاها

للأديب (الشاعر والناقد والتربوي) الكبير روحا وإبداعاً «مبارك حسن الخليفة» إسهامات عميقة في رفد الثقافة العربية المعاصرة في اليمن، ونجد لها أعمق الأثر عندنا في عدن التي ذهبت عميقاً في وجدانه، في تلافيف وعيه (القومي) وفي دفق روحه (الإنساني).. وما كان ليبتعد عن روح المكان (اليمن والسودان).. أي جسر الوجدان. وقد عمل بجد ودأب سواء من خلال عمله الأكاديمي، ومن خلال تجلياته الخلاقة في الأدب، على بلورة الكثير من المعطيات في حقل اللغة وفي إشكالية النص الأدبي بما يمتلك من أدوات نقدية ومعرفية، فأسهم بذلك في تطورنا الإبداعي.

غير أن هنا، أتوقف عند نشاطه الإبداعي في تجربته الشعرية الغنية عن التقييم الموضوعي بعد أن أخذت مكانها بين نماذج الشعر العربي، شأنه في ذلك شأن كثير من عمالقة الشعر في السودان المعاصر:«محمد الفيتوري، جيلي السيد عبدالرحمن، وتاج السر الحسن».. أكان ذلك على امتداد الوطن العربي، أم الامتداد العربي السوداني داخل أفريقيا.. وحيث إن لكل واحد منهم طبيعة خاصة أكانت تتمثل في الاتجاهات الصوفية، أم في الروح الغنائية العالية والرومانتيكية، أو كانت تذهب إلى نزعة اليسار المتحرر في مرحلة النضال من أجل الحرية ممن تشبعوا بروح الاستقلال في مهاجمتهم للاستعمار والإمبريالية والغرب، أو كان كأدب الفيتوري المتجه إلى أفريقيا من خلال نزعة الإنسان الأفريقي الذي عاش في العبودية والعنصرية.. فلكل شاعر خصوصيته ومن خلالها يتحدد مكانه الطبيعي، غير أنهم جميعاً يمثلون قامات كبيرة في خريطة الأدب العربي والأفريقي والعالمي.

إن طبيعة الإنسان والحياة والبيئة بما تحمله من سمات وملامح هي وليد طبيعي في النتاج الأدبي والفكري.. نجد ذلك في «أغاني من أفريقيا» بما لها من بعد أفريقي كبير ونجده في «قصائد من السودان» في بعدها الداخلي المحمول برائحة المكان وروح التمرد والثورة وهي تضرب في العمق السوداني.

هذا شاع يتنخل (*) الوطن القومي، وتجري في عروقة دماء زكية من معدن الإنسان - الإنسان الذي يفترش العالم.

في عامي -1955 1957م أثناء دراسته الجامعية في القاهرة (أرض الكنانة) كان مبارك يطوف على الطلبة موزعاً ديوان «قصائد من السودان» للشاعرين اللذين كانا رفيقي دراسته «جيلي السيد عبدالرحمن، وتاج السر الحسن».. فكان يغمس يده في هذا الديوان، ليس ذلك من أجل مساعدة رفيقي دربه على تحمل أعباء الدرس بريع ذلك العمل الشعري المجيد كي لا ينقطع بهما الطريق.. ولكن لأن وجه السودان كذلك كان ينزّ في ذلك الشعر إعياءً وفقراً وجوعاً.. ويصور السودان بقمره يرسل شعره على القرى الحالمة النائمة الكسيفة، والمثقلة بالأماني المعذبة والعذاب.

وهناك عبر زروعهم.. عبر البيوت النائمه صوت يلوح كهمهمه

أو أنة متظلمة!

***

ودلفت. والقمر الطروب يذيب أحزان الشجر

والظلمة الدكناء تخلي الدرب يرغمها القمر

تنسل والنور الدفوق يسوقها بين الحفر

وكما وجت في خاطري صور الصباح المنتظر

وارتاع في قلبي الأسى كسحابة كانت تمر

وذرفت دمعة راهب.. وحبست دمعات أخر!

(جيلي السيد)

والقبو سوف يروعه وقع الشعاع على الدروب

ومعاول المقهى تفتح للشعاع كوى الوثوب

ويطل طفل السفح كالأشواق كالأمل الخصيب

يرى أناساً غيبوا في الموت في الماضي الرطيب

يرى أناساً أحرقتها لعنة الأمس المريب

يرى مسوخاً شوهت في نفسها قدس الشعوب

***

لكن سأذود عنك مخاوف القبو الهوان

وأرد قلبك شاعراً في عمقه حب البرية

ويهز إشعاعى هنا أدغال ظلمك العتية

وتهيكل الأضواء من قلبي أماسيك الشقية

فتعود يا ابن الليل فجرياً صباحي الطوية

وتقدس الشعب الذي حطمت فيه الآدمية

(تاج السر)

وهذه هي «السودان» في قصيدة «الوطن» التي كتبها الدكتور مبارك حسن الخليفة عام 1988م في السودان ووقت أن كان يعد للدكتوراه في باكستان.. وقد أعادت إلى ذهني تفصيلاً صغيراً لإيليا أهرنبرغ عن تشيخوف حيث قال:«شاهد (سيلان) وقال بعدئذ بأنه كان في الجنة، ولكنه ابتدأً في سيلان بكتابة قصته «غوسيف» أي أنه لم يكف عن التفكير بروسيا حتى في الجنة»... وهذا هو خليفة قد كان في الجنة تلك التي غشيها تشيخوف ومع ذلك يكتب عن «السودان»:

بعيد عنك في البنجاب

عند منازع الشمس التي

سطعت حياة في سماك

أراك هناك أمامي

خضرةً

شربت من الحسن البهيم

طراوة وأزاهراً

رسمت على خدي قبلتها

لتكسب بعد تقبيلي رضاك

وزاد من عذابيَ

سربٌ من الشباب

يتيه في البنجاب

بثوبه الخلاب

ذكرتُ حين تستحم في ضيائك الحسان

حمائم تلفها ثيابها البيضاء

تدس حسنها من نظرتي حياءْ

فأين أنت مني

لمن ترى أغني

لمن أبث فنّي

وفرحتي وحزني

وطالت المدى نزوحي

أبحرت في جروحي

مددت كالشراع روحي

لكنها تمزقت

تبعثرت

في الريح

البحر ضاق بي

والأفق لم يعد يدلّني

ونجمه خبا

ولفّه الظلام السرمدي

أحس أنني نازل

في القاع نازل

في معصمي سلاسل

من فوقها الزلازل

فامدد يديك

علني أواصل الإبحار والرحيل

عائداً إليك

***

بعدتُ

لكي يقربني إليك البعد

وتهتُ لكي أرى درباً إلى طريق خطاك

تبعثرني

تلملمني

وتنثرني

ولكني أسير هواك

في هذه القصيدة نقرأ كل خصائص ومميزات روحه.. نجد إنسانية الإنسان، والوطن الموصوف من الداخل.. وبين روح الإنسان وروح المكان يقوم جسر الوجدان. ويتعمق لدينا الشعور بالبعد عبر محاولة تفجير اللغة مع الإحساس بالتمزق والضياع والانغمار في عتمة ليل سرمدي. وفي هذه كله تتجسد لمخيلتنا صورة بديعة ساحرة للشواق homesickness بمعنى الحنين إلى الوطن والأسرة.. (إنه الوطن! وكلما مسّنا شيء من زلازله أو كانت سلاسله تشدنا إلى القاع.. أو تناثرت بلابله وتبعثرت). وهي هنا صورة غير نمطية، فليست من النوع الذي يصمه البعض بـ «افتعال الموضوع في الشعر» بل نجد فيها عمق الصدق العاطفي، انعكس على شعوره من خلال موضوع الاغتراب محط هذه التجربة الشعرية:

النزوح الطويل المدى.

الصور وكذلك الجروح التي تنزّ من جسد الوطن - الإنسان.

تمزق الروح (وإن نزحت عن حيّها باختيارها، أو كان ذلك رغماً عنها) فهي تلح إذ بعدت على طلب الشيء الذي يفتقر إليه الوطن، وكفنان يحاول أن يخلق وعياً قوياً لحاضر الإنسان - لحاضره هو أي الشاعر - وعياً جديداً وقوياً للوطن ليسبغ عليه كل الحب.

وهذه هي قوانين تكوين النص حين تأتي صياغته من الداخل العميق في النفس.. ودونما إسقاطات كبيرة مما اعتاد النقاد أن يخلعوها على ظواهر الإبداع!.. فما هذه إلا أغنية خالصة للوطن حيث الصورة فيها لا تسمح إلا بتكوين قوة تعبيرية مكثفة من خلال منظوراتها المتغيرة.

وهذا كان مطلعها:

تبعثرني يداك

فهل تلملمني يداك

وتتبعني خطاك

فمن سيتبعها خطاك

و بي ظمأ إليك

و في دمي يجري نداك

و ملأ جوانحي عشبٌ طري

و الدنى تبدو أمامي قفرة

و أحسّ لفح سمومها

و أنا الذي سكنت عروقي

نسمة حملت شذاك

وإذا ما توقفنا عند الشكل الفني لشعر الدكتور مبارك حسن الخلفية، وهو يتنقل بين العمود - والحر، نجده في شعره التفعيلي المتفرد عن عمود الشعر، مجدداً أصيلاً، إنه يمزج النوعين بإبداع، فلا يجنح إلى الغموض المكثف، حتى وهو يصف لنا الأشياء غير المرئية بالنسبة للآخرين وفيما هو يلتقطها بعين شاعر، ولا تجده مع ذلك معروضاَ بشكل سطحي.. ذلك إن كانت القوالب الفنية هي التي تصنع البعد الزمني للأشياء والأفكار والصور، أو كانت هي التي تحدد النوعية الفارقة لظواهر الإبداع الثقافي والفني، فإن الشاعر هنا بما لديه من وعي بما آل إليه تطور الشعر العربي، ولأن الحالة لم تعد هي نفسها.. فإنه قد جعل ينتقل به إلى تركيبات متداخلة مع العصر!

ولست أريد أن أمضي إلى ما لديه من إمكانيات «القولبة» الشكلية أي بناء هيكل القصيدة بما يتسق مع المضمون في نقل التجربة الشعرية.. فذلك واضح في قصيدة «الوطن» الرائعة التي تكشف عن تلك الإمكانيات بكل اقتدار.. مثلما نجد الأمر مختلفاً في قصيدة «عدن» التي صدرنا بها هذا المقال لنتمزز هذه العلاقة الفارقة في غنائية من نوع مغاير حسب الموضوع الذي يمليه واقع الشعور بروح المكان، بل بما يستجيب للتجربة الشعرية.

إنه نهر كبير.. وما عرفته في شعره أو في هذا النهر عبداً لعواطفه بحيث يضع نفسه في إشكالية مع القارئ، وفي مواجهة مستمرة مع السلطات داخل تركيبة النظام العربي الذي يشبه البركة الآسنة حيث «يشعر» الشعراء جراء إحساسهم أن ليس له شفاء فيمضون في تذمرهم إلى ما لا نهاية!.. ولكن يوجد في أعماقه - مع هذا- إنسان حي حيث يستطيع الجميع أن يستحم في هذا النهر، مثلما يمكن فيه اصطياد الحوريات والقمر دون أن يعكر هدوءه هؤلاء الذين يقعون تحت كراهية العالم.

في هذا الإطار، كان جيلي عبدالرحمن وقد عاش ودرّس في عدن وتخرج على يديه جيل من الشعراء شأن أستاذنا الدكتور «مبارك».. «في مفاهيمه للإبداع الشعري يقول بضرورة تجنب الممارسة السياسية اليومية التي يمكن أن يمارسها أي شخص لكنها تمتص روح المبدع».. وكان هذا الموقف الذي أثار ردة فعل عنيفة من جانب بعض المناضلين في السودان - فيما تكاد أن تكون سمة عامة في الشعر السوداني الحديث.. وحتى في شعر النضال الذي مارسه كثير من الشعراء في السودان.

وكان يمكن أن نتصور أن الشاعر لا يتفاعل مع معاناة الناس بشكل إنساني في أفكاره ومفاهيمه للحياة.. غير أن ما عناه (وهذا ما التقطه الشاعر الراجل محمد حسين هيثم عن جيلي) ليس الانفصال عن السياسة ولكن ممارستها كجزء من العملية الإبداعية ذاتها.

وهذا ما نجده في شعر دكتور مبارك بحساسيته الروحية المرهفة وكإنسان يمتلك الأحاسيس الكبيرة.

هكذا، من خلال مخاضاته في عثرات الحياة:

من الصحراء إلى البنجاب

من البنجاب إلى الصحراء

من الصحراء.. لا أدري

والجملة الأخيرة (بل جميع الشطرات) التي يهيمن عليها «الضياع» وهو جزء ضئيل من الموضوع الذي يظهر مجسماً في القالب الفني للقصيدة بشكل عام، نجدها مثقلة بالإيحاء والتعبير، قد نتوقف على (السياسي) منه، وقد لا.. إنه شيء يحدث في (داخل) الإنسان متى كانت له دلالات مختلفة في النفس الإنسانية الشاعرة، وهو الذي يمد في نَفَس القصيدة ويكسبها البقاء.. يصور «التعاسة» فتبدو تلك التعاسة بشكل أكثر تجسيماً عن طريق الفن والصدق الفني.. إنه يتألم من الواقع ولكنه يقوم بهذا الشيء دون أن يلحظ القارئ ذلك بل يحسه ويدركه في أعماقه.

وهكذا كان الشاعر «دكتور مبارك» يطرح نماذجه منذ بداية تجربته الشعرية.. ثم توالت مع انثيال الرؤى.

هامش:

(*) يتنخل: يتخيّر، بمعنى أوسع: يستخلص أقصى الخير من الشر. (المؤلف)

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى