حديث القرآن عن فريضة الحج

> السيد عبدالقادر عبدالله المحضار:

> إن المتدبر للقرآن، يراه قد فصل الحديث عن فريضة الحج، فقد حدثنا عن فضائل المسجد الحرام الذي أمر الله عباده بالحج إليه وعن قصة بنائه، وعن الدعوات الخاشعات التي كان يتضرع بها إبراهيم وابنه إسماعيل- عليهما السلام- وهما يرفعان قواعد البيت الحرام.

استمع إلى القرآن وهو يتحدث عن هذه الحقائق بأسلوبه البليغ المؤثر فيقول:وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود، وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن بالله واليوم الآخر، قال ومن كفر فأمتعة قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير، وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبّل منا إنك أنت السميع العليم، ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم.

1) أي: واذكر- أيها العاقل- لتعتبر وتتعظ، وقت أن جعلنا البيت الحرام، وكعبته المشرفة مثابة للناس أي: مرجعاً يرجعون إليه ليزيدهم إيماناً على إيمانهم، ولترتفع درجاتهم عند خالقهم بسبب الطواف به، وصيرناه كذلك موضع الأمان والاطمئنان لنفوسهم في جميع الأزمنة والأوقات، وعبر- سبحانه- بقوله وأمناً للإشعار بكثرة ما يقع فيه من الأمن، حتى صار كأنه هو الأمن بذاته، وهذا أمر أيدته المشاهدة التي لاينكرها عاقل، فقد صار البيت الحرام محفوظاً بالأمن من كل ناحية، ففي عهود الجاهلية كان الناس يقتتلون ويعتدي بعضهم على بعض من حوله، أما أهل هذا البيت فكانوا في أمان واطمئنان، كما قال سبحانه: أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم، أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون?}?سورة العنكبوت الآية 67. وقد أكدت شريعة الإسلام هذه الحرمة للبيت بآيات قرآنية وبأحاديث نبوية أخرى، ولكن على وجه لايضيع حقاً، ولا يعطل حداً، وزادت في تكريمه وتشريفه بأن جعلت الحج إليه فريضة على كل مستطيع لها، وقادر عليها في العمر مرة واحدة.

قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية:«ومضمون ما فسر به العلماء هذه الآية أن الله يذكر شرف البيت وما جعله موصوفاً به شرعاً وقدراً من كونه مثابة للناس أي: جعله محلاً تشتاق إليه الأرواح، وتحن إليه، ولا تقضى منه وطرا، ولو ترددت إليه في كل عالم، استجابة من الله لدعاء خليله إبراهيم في قوله:? ?فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وقوله تعالى: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى أمر من الله لحجاج بيته بأن يجعلوا جانباً من صلاتهم في هذا المكان المبارك، والمراد بمقام إبراهيم الحجر الذي كان يقوم عليه عند بنائه للكعبة المشرفة، ومازال هذا المكان معروفاً بهذا الاسم، وقد ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام مسلم بسنده عن جابر بن عبدالله أن رسول الله (طاف بالبيت سبعاً وصلى خلف المقام ركعتين).

ثم بين - سبحانه- بعض مظاهر التكريم والتشريف لهذا البيت فقال:?{?وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود أي: أوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن طهرا هذا البيت من كل ما لا يليق ببيوت الله من الأقذار والأرجاس والأوثان، ومن كل ما هو مظنة للشرك بالله الواحد الأحد، الفرد الصمد، فالمقصود بهذا التطهير للبيت صيانته من كل رجس حسي ومعنوي، حتى يتمكن الطائفون بالكعبة والعاكفون والمقيمون بالبيت بقصد العبادة والمصلون فيه من أداء عباداتهم أداء سليماً، يجعلهم ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه. والمتدبر لهذه الآية، يراها قد جمعت أصناف العابدين لخالقهم في بيته، وهم الطائفون وإن لم يكونوا مقيمين، كمن يأتون للحج والعمرة ثم يعودون إلى بلادهم، والعاكفون وهم الذين يقيمون في الحرم بقصد العبادة في أول بيت وضع في الأرض لعبادة الله، والركع السجود وهم المصلون فيه سواء أكانت صلاتهم فرضاً أم نفلاً.

2) ثم ساق سبحانه بعد ذلك جانباً من تلك الدعوات التي تضرع بها إبراهيم إلى ربه خلال بنائه للبيت الحرام فقال:وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً) أي: أضرع إليك يا إلهي أن تجعل هذا البلد الذي فيه بيتك- وهو مكة- مكاناً يأنس إليه الناس ويأمنون فيه من الخوف ويجدون بداخله كل ما يبدونه ويرجونه من اطمئنان، وأما الدعوة الثانية التي تضرع بها إبراهيم من أجل المؤمنين من أهل مكة فقال فيها:?وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر أي: وكما دعوتك يا إلهي أن تجعل هذا البلد وهو مكة بلداً آمناً من الخوف، أدعوك أيضاً أن ترزق المؤمنين من أهله من الثمرات الطيبات، ما يسد حاجتهم، ويغنيهم عن مد أعينهم إلى غيرك، فأنت الرزاق العليم، وأنت أكرم الأكرمين.

وإنما سأل إبراهيم ربه أن يجعل مكة بلداً آمناً، وأن يرزق أهلها المؤمنين الثمرات التي تغنيهم، لأن البلد إذا امتدت إليه ظلال الأمن، وكانت مطالب الحياة فيه ميسرة أقبل أهله على طاعة الله بقلوب مطمئنة وتفرغوا لذلك بنفوس مستقرة، وقد أشار القرآن في مواطن عدة إلى أن الله قد أجاب دعاء إبراهيم عليه السلام ومن ذلك قوله تعالى:إيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف وخص إبراهيم المؤمنين بطلب الرزق الوفير لهم حرصاً على شيوع الإيمان بين سكان مكة لأنهم إذا علموا أن دعوة إبراهيم إنما هي خاصة بالمؤمنين تجنبوا ما يبعدهم عن الإيمان، واقتصروا على ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر في التعبير عن المؤمن،لأن الإيمان بالله واليوم الآخر لايقع على الوجه الحق إلا إذا صاحبه الإيمان بكتب الله وملائكته ورسله.

ثم بين- سبحانه- مصير الكافرين فقال: قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير أي: قال إبراهيم: يارب اجعل مكة بلداً آمناً، وارزق أهله المؤمنين من الثمرات ما يغنيهم عن غيرهم، فأجابه الله بقوله سأرزق أهله المؤمنين ما يغنيهم وأرزق أيضاً من كفر منهم في الدنيا ما أريده لهم من الرزق، أما في الآخرة فإن هؤلاء الكافرين، سأسوقهم إلى عذاب شديد وسيكون بئس المصير مصيرهم.

ووصف- سبحانه- التمتع بالأرزاق في الدنيا بالقلة لأنه مهما كثر فإن مصيره إلى الزوال والنفاذ، وقد أفادت الآية أن الله يرزق المرمنين والكافرين في الدنيا، أما المؤمنون فلأنهم استجابوا لأمر ربهم وأخلصوا له العبادة والطاعة، وأما غيرهم فالحكم منها: الاستدراج كما في قوله تعالى:« سنستدرجهم من حيث لا يعلمون، وأملي لهم إن كيدى متين» سورة القلم (44-45)، ومنها: أنه سبحانه لو خص المؤمنين بالأرزاق الواسعة في الدنيا وحرم منها الكافرين لكان هذا التخصيص دافعا للكافرين إلى الإيمان على وجه يشبه الإلجاء والإكراه، وقد أقتضت حكمته- تعالى- أن يكون الإيمان المقبول اختيارياً حتى يساق إليه الإنسان بدافع من فطرته وبأدلة عقلية سليمة، وشبيه بهذه الآية قوله:« قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة، كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون» الأعراف الآية 32، أي: قل- أيها الرسول الكريم- إن هذه الطيبات من الرزق، هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ويشاركهم فيها غيرهم ممن لم يؤمنوا، أما في الآخرة فإن هذه الطيبات من الرزق خالصة للمؤمنين ولايشاركهم فيها غيرهم من الكافرين.

ثم حكى القرآن دعوة ثالثة من الدعوات التي تضرع بها إبراهيم وإسماعيل إلى ربهما خلال بنائهما البيت الحرام فقال:« وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم».

والقواعد: جمع قاعدة وهي أساس البناء وبها يكون ثباته، ورفعها معناه إبرازها عن الأرض عن طريق البناء عليها، أي: واذكر- أيها العاقل- لتعتبر وتتعظ ما صدر عن هذين النبيين الكريمين، فقد كانا وهما يقومان برفع قواعد الكعبة يرفعان أكف الضراعة إلى خالقهما بقولهما يا ربنا تقبل منا أقوالنا وأعمالنا إنك أنت السميع لما نقول، العليم بنياتنا وسرائرنا، وتصدير الدعاء بندائه -سبحانه- باسم الرب المضاف إلى ضميرهما مظهر من مظاهر خضوعهما له، وإجلالهما لمقامه، والخضوع له- سبحانه- وإجلال مقامه من أسمى الآداب التي تجعل الدعاء مرجو القبول عنده - تعالى -.

وختما دعاءهما بذكر اسمين من أسمائه الحسنى ليؤكدا أن رجاءهما في استجابة دعائهما وثيق، وأن ما عملا ابتغاء مرضاته جدير بالقبول، لأن من كان سميعاً لأقوالهما عليماً بسرائرهما يكون تفضله بإجابة دعائهما غير بعيد، فقد قال سبحانه « وإذا سألك عبادي عني فإني قريب، أجيب دعوة الداعي إذا دعان، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون» البقرة الآية 186.

4) ثم ساق القرآن بعد ذلك جملة من الدعوات الطيبات التي توجه بها إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام- إلى ربهما عز وجل فقال:« ربنا واجعلنا مسلمين لك» أي: يا ربنا اجعلنا خاضعين لك في كل أحوالنا ووفقنا للثبات والدوام على إخلاص العبادة لك والطاعة لأمرك واجتناب نهيك «ومن ذريتنا أمة مسلمة» أي: واجعل ياربنا من ذريتنا أمة مخلصة وجهها إليك. وإنما خص الذرية بالدعاء لأنهم أولى بالشفقة، ولأنهم إذا صلحوا صلح بهم الأتباع، ولأن صلاح الذرية مرغوب فيه والدعاء لهم بالصلاح مطلوب شرعاً، فقد كان من دعاء عباد الرحمن:« ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما». سورة الفرقان « وأرنا مناسكنا» والمناسك: جمع منسك، بمعنى الفعل وبمعنى الموضوع، وشاعت تسمية أعمال الحج بالمناسك كالطواف والسعي وغيرهما، أي: وعلمنا - ياربنا - شرائع ديننا وأعمال حجنا ووقفنا لأدائها بالطريقة التي ترضيك، «وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم» أي: ووفقنا يامولانا للتوبة الصادقة واقبلها منا، إنك أنت الكثير القبول لتوبه المذنبين إليك.

5) ثم ختما دعواتهما بتلك الدعوة التي فيها خير العباد في الدنيا والآخرة فقال:« ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم» أي: ونسألك- ياربنا- أن تبعث في ذريتنا رسولاً منهم يعرفون حسبه ونسبه، يقرأ عليهم آياتك الدالة على وحدانيتك وقدرتك قراءة تذكير وإرشاد، ويعلمهم ما في كتابك من شرائع سامية وآداب عالية ومن فضائل جمة، كما يهديهم إلى الحكمة المتمثلة في سنته وفي العلم النافع المصحوب بالعمل الصالح، ويزكيهم ويطهرهم من الأرجاس الحسية والمعنوية، إنك- ياربنا- أنت العزيز الحكيم. والمتأمل في هذه الآية يراها قد جاء ترتيب ألفاظها في أسمى درجات البلاغة والحكمة، لأن أول تبليغ الرسالة يكون بتلاوة القرآن ثم بتعليم معانيه ثم بتعليم العلم النافع الذي تحصل به التزكية والتطهير، ولقد حقق الله دعوة هذين النبيين، فأرسل في ذريتهما رسولاً منهم هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أرسله إلى الناس جميعاً، ليكون بشيراً لمن آمن وعمل صالحاً، ونذيراً لمن طغى وآثر الحياة الدنيا.

ومما يدل على تحقق دعوة هذين النبيين قوله تعالى:« لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين» آل عمران الآية 164 وقوله:« هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين» سورة الجمعة، وفي الحديث النبوي:« أنا دعوة إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا آمنة».

نسأل الله أن يجعلنا جميعاً ممن رضي عنهم ورضوا عنه.. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمدلله رب العالمين. قاله بلسانه وكتبه بخط يده طالب الدعاء عبدالقادر عبدالله علي المحضار بن الشيخ أبي بكر بن سالم.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى