النظم الأخلاقية والإسلام

> عبدالفتاح قاسم ناصر الشعيبي:

> ليس أصعب على الباحثين من وضع المقاييس للأنظمة الأخلاقية؛ وذلك لأنها ليست كالحقوق والواجبات تخضع للعقل وتقع تحت مجهره، فهي من هذه الناحية طليقة من أسر البحث العقلي ولا يمكن أن تقوم عليها أدلة عقلية قاطعة كالأدلة التي تقام على الحقائق العلمية ذات النتائج المنطقية.

فالأنظمة الأخلاقية دائماً ما تكون بنت العرف والعادة، ومن ثم فهي تختلف باختلاف الأمم وتختلف أيضاً في الأمة الواحدة باختلاف العصور والظروف، فما تعده أمة فضيلة قد تعده أمة غيرها رذيلة، وما يكون خيراً في مجتمع قد يكون شراً في مجتمع آخر.

إن النظم الأخلاقية كثيرة، ولكن هناك أحكام مختلف عليها، فالانتحار مثلاً الذي يحرمه العرف كان واجباً محتوماً عند اليابانيين في بعض الحالات، أما السرقة فقد أجمعت نظم الأخلاق كلها على تحريمها أياً كان نوعها وأياً كان مرتكبها، بينما كانت لدى مشرعي مقدونيا و(أسبرطة) واجبة على الأحداث والشبان لاعتقادهم أنها تدربهم على شئون الحرب وتأخذهم بالأمور اللازمة للجندي من المهارة والخديعة وسرعة الحركة، وكان الشاب لا يعاقب إلا إذا قبض عليه وبيده الشيء المسروق قبل أن يتمكن من إخفائه في مكان ما، وفي الحقيقية فإنه لا يعاقب على السرقة نفسها، بل على عدم مهارته في إتمام عمليتها دون فضيحة ولا ضجة.كل هذا يدل بقوة على صحة الرأي القائل بأن الأخلاق قضية تابعة للعرف والتاريخ، وأمام ذلك أصبح لزاماً وجود وازع يحمي الأخلاق. فما هي الوسيلة التي تكفل القضاء على الآفات الأخلاقية؟

نعود ونرد على ذلك القول، بأنه من المسلم به أن كثيراً من الظواهر الأخلاقية لا يعاقب عليها المجتمع، وإنما يترك للرأي العام أمر حراستها ومقاومة الخروج عليها، كالكذب والحسد والحقد والغيبة والنميمة، وكل هذه الأمور أمراض تنخر في الجسم الاجتماعي، وتحول بنيانه إلى إنقاض خربة في كثير من الأحيان، وفي كثير من الأحيان لا يكون للرأي العام نفسه سلطان عليها لسبب بديهي، وهو أنه لا يمكنه مراقبة أعمال الأفراد وسلوكهم ومقاومة المنحرف منهم، لان الأخلاق مرتبطة في قضاياهم بالفكر من جهة، وبالنوايا من جهة أخرى، ومن المتعذر السيطرة على الفكر واستكشاف النية، أو فهم الاتجاهات النفسية، والقضاء على الضلال في التفكير الأخلاقي. ومن الواضح جداً أن النظم الأخلاقية بالرغم من أهميتها التي ليس لها نظير في بناء المجتمعات ورقيها، وبالرغم من أنها يتوقف عليها سمو المجتمع وسيره وانهياره وتوقفه، فإنه لا يلقى حراسة كافية من جانب العقل والقانون ولا الرأي العام.

ومن هنا كان لابد من الدين كدعامة للشئون الأخلاقية، لأنه هو الوسيلة الوحيدة التي تخرج عن نطاق المنطق الضروري، وهو وحده الذي يتجاوز رقابة القانون وحراسة الرأي العام، لأنه في الواقع رقابة الذات لذاتها والنفس لنفسها، ولأنه هو الذي يضفي على النظام الأخلاقي صفة القدسية، ويكسبه عظمة الإيمان وجلال العقيدة، ويسمو به عن متناول الشك وتخبط العقول، ويخلق في نفس كل امرئ وازعاً داخلياً- غير الضمير- يسيطر على كل خلجة من خلجات فكره، ويوجه كل حركة من حركات جسمه، ويجعله يستشعر الخوف من خالقه، ذلك الخالق الذي يحاسبه على عقائده وأفكاره كما يحاسب على أعماله وسلوكه. ونحن نعتقد أن الإسلام -إلى جانب الأديان الأخرى- قد ضرب بسهم وافر في تقوية النظم الأخلاقية، وتقريرها ومساندتها، يدلنا على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

* باحث في التاريخ الإسلامي

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى