في جعبة الفراشة غناءٌ عَقَدَ لساني

> «الأيام» علي محمد يحيى:

> آخيت .. بين الجعبة والفراشة ..الأولى ..مثقلة بهمِّ الشعر والثانية رشيقة ..مفتونة بأسفارها ..وغفوت بينهما ..على دفق الكتابه (ع.م.ي)

يقول لامارتين:«يبحث الشعراء عن العبقرية في مكان بعيد، مع أنها في قلوبهم». أما ألفريد موسيه عندما كتب «نامونا» فيقول عن هذه الجمالية النابعة من العبقرية :«أعلم أن القلب هو الذي يتكلم ويتأوه ..وعندما تكتب اليدان فإن القلب يذوب شيئاً فشيئاً». و«كذلك لا يصنع الفن إلا الشعر، والقلب وحده هو الشاعر».

هو ذاك حال أستاذنا وأديبنا الشاعر والمثقف جداً عبدالرحمن فخري أطال الله في عمره ومتعه بموفور الصحة، إذ أخاله أنه لا يفعل مع الشعر إلا أن يطيع قلبه بأن يمد يده نحو يراعه يسطر ما يمليه عليه.

ومن جميل طالعي أن تشرفت بإهدائه لي (إضمامة) حوت بين دفتيها زنابق وأزهاراً من الشعر، وبعضاً من النثر، إضمامة اكتسى غلافها بحلة زاهية يشتم فيها عبق الورد وشذا الليلك، أسماها «من جعبة الفراشة».

إضمامته هذه كما وسمها هي إضمامة من الأغاني، قد أودع فيها من أعمال مراحل أربع، منبعثة من تجربة شعرية ونثرية أصيلة، عاشها ويعيشها شاعرنا بمشاعره وحواسه، يمتزج فيها عالمه الخارجي بعالمه الداخلي في نشوة وذهول واستغراق.. تجربة يتفرع فيها الشعور والعاطفة من انفعالات النفس المختلفة من مسرة وحزن، وعجب وإعجاب، واطمئنان وقلق، وأمل ويأس، إلى غير ذلك من تلك الانفعالات، فنلتمس فيها قدر ما عنده من صدق وقوة المشاعر، كسمة يتسم بها شعره ونثره اللذان يجدان سبيلاً معبداً إلى قلوبنا، وكذلك في قدرته وشفافيته في اختيار اللفظة الملائمة في موقعها الملائم. فمنها ماهي مكونة لجو عاطفي.

ومنها موحية بجملة من المعاني، ومنها القوية الملائمة للتعبير عن الانفعال القوي، ومنها المؤنسة في السياق، ومنها العذبة.. ومنها المساعدة على الهمس.

يد بيضاء

وأوراق من البلور

تضيء الدهر

وعين رماد

تسير في ربى الأحلام

تعري الزهر

وفي وجنات وادينا

بوادينا

(من قصيدته: لقاء الذات)

كذلك فإن ألفاظه الجزلة الدقيقة، للمعاني الدقيقة التي لا تخلو منها قطعة أو نص في إضمامته هذه قد أفضت -كما يخيل لي- بأنه خير من اهتدى إلى سر صوغ الألفاظ ومعرفته أبعادها في النفس وقوة سحرها.

«الكلمة الأولى» كانت فاتحة الإضمامة- افتتاحيتها- فهو لم يستعن بغير نفسه في تقديم نفسه.. فكانت ترجمة أعجز في أن أصفها إذ لم تكن إلا أغنية عذبة من الأغنيات التي احتوتها أوراقها، هي كما يصفها بأنها أغان حاول جمعها من شجرة القلب والحياة، وأنه ربما ادعى (لها عبقاً في أنفه ذات يوم، وربما مازال لها عبق خاص في القلب وإن قل، لأنها تتصل- بذكريات- مع المرأة والواقع والعالم).

يا قلبي يا ديوان الحب

أرجو أن تفتح الصفحة الأولى

من النهار

كي تعرف مصيري

قبل اسمى

وقصة القلب الطائر

بلا رفيق

(من أغنيته:إلى مسافرة تنتظرني)

أمتعني بصدمة إنسانية قل أن نتأثر بها من شعراء كبار كثر، دللت على تواضعه الجم حين وسم نفسه في خاتمة كلمته الأولى بأنه ذلك المسافر الذي تضطرب بين قدميه رحلة العشق والسفر، وهو الذي مازال يحمل عصاه بين الكلمات والمحطات مردداً شعاره الأبدي:

أنتم شعراء بالجملة

وأنا أستحي من وجه ديوان

في تقاسيم نغمية أربعة، جاءت أغانيه - قصائده ونصوصه - في إضمامته هذه وهي:«من الأعمال الأولى»،«أعمال أخرى»،«عموديات»،«ومن الأعمال الأخيرة» مترجمة ومعبرة أيما تعبير عن رسوخ الحداثة في أدبه، وبخاصة الشعر، وأنه - أي الشعر- عنده إنما هو قيثارة جميلة نابعة نغماتها من روحه، تناجي العواطف، وتلامس الوجدان، ولسان حال للمشاعر، وأن الشعر في تجربته الطويلة يظل شعراً.. بيتياً بأدوات جديدة، أو حراً مرسلاً أو تفعيلياً، وأن العمل الشعري كله إنما هو تجربة إنسانية متأصلة في النفس في كل عصر وزمان. ولم يفت شاعرنا الكبير حين نقرأ أغانيه أن يؤكد أن الغناء وحده في الشعر لا يكفي ليكون شعراً عظيماً، إلا إذا استشرف فيه آفاق الدراما في النص، وعالج باقتدار ثنائيات الأزمة واللحظة في عالمه الداخلي والخارجي، مستمداً معانيه من مرارة شعوره مع ما يتصل به في نفسه من ألم وأمل وحزن وفرح، فتحمله هذه الهزات العاطفية كي يستوعب النص المعنى، فيتفرع عنها ويولد منها، حتى لكأنه يستفرغ ما في نفوسنا من معان لألفاظ يتخير منها الفصيح القوي،الجزل الأخاذ المؤدي للمعنى الإفرادي، فيأتي بالسهل الممتنع ويسمو في استعارة اللفظ المتألق.

ولا أخالني أغالي حين أزعم أن رفعة شعره تتلاقى مع جلال نثره في مؤثراته وأغراضه، وأن مدار شعره كمدار نثره على قدر متميز من الالتزام..

يصحو الفكر

فقط لينام

على سرير وثير يُدعى الرأس

في عز النهار

يتثاءب كديناصور

وفي الليل

لا تسامره رؤى باذخة

كسائر الناس

عيناه نافذتان

واللسان ذات وزن

لكن الحبر

لا تدلق الكلام

(من أغنيته: الجثة)

فسلام عليك عبدالرحمن، يوم جُبلت شاعراً..

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى