بالتصالح والتسامح سنبني بيتنا الجنوبي

> علي هيثم الغريب:

> لا تربط الذاكرة وقائع الليلة القصيرة لليوم الثلاثين من نوفمبر 1967م بالتطورات التي أعقبتها في جنوبنا الغالي.. ربما من شؤون المؤرخين الجنوبيين تأكيد ما هي القوى التي دعمها أو أضعفها نفوذ الخارج في ذلك الوقت.. وتعود تلك السلسلة من الأحداث التي نتغلب عليها ببطء إلى موجات المد القومي والبعثي والاشتراكي، التي اجتاحت كل بلدان المستعمرات في العالم، وقد كانت هناك صلة مباشرة تماما بين الأحزاب في الوطن العربي وارتباطاتها الدولية والأحزاب في بلادنا ماعدا حزب رابطة أبناء اليمن.. ولم يكن يوجد فعلا مخرج آخر، وإن وجد إلا أن الإنسان لايجرؤ على قوله.. فالعالم حينها كان يعيش وحدة الرأي الإجبارية.. والعالم الرأسمالي الآخر كان غارقا بالأرباح ودماء الشعوب المقهورة.. هكذا داهمتنا الايديولوجية وظهر على موجة الأحداث نموذج خاص من البشر مازلنا نعاني منه حتى اليوم، يتسلق سلم المناصب ويكسب الشهرة باحثا عن (الرجعيين) في أي مجال.. وكانت صيغة (الدكتاتورية) أفضل صيغة لديه.. ولم يكن يهم هؤلاء النفر بناء الوطن، بل كان همهم الانضباط الايديولوجي.

هذه الأخطاء السياسية غطت على بعض الإيجابيات الاجتماعية والاقتصادية.. ولا ننكر أن الرغبة لمعرفة ماجرى في الماضي جامحة جدا.. ولابد من رفع الستارة قليلا عن التاريخ، حيث جرى كل ما هو جيد وكل ما هو سيء.. وما الذي نأخذه من الماضي إلى الحاضر؟ وما الذي نتركه؟ وبعبارة أخرى، ماهو التراث الذي نتخلى عنه؟، وأعتقد بأن الاعتدال ضروري في مجال ذكر الماضي خاصة حول النظام السياسي في الجنوب-سابقا- الذي تحول من التحرر الوطني إلى التحرر الطبقي.. وعلى الرغم من أن الصراعات في الجنوب (67-1976م) كانت عصبية وبعضها دموية، إلا أن أصحابها اليوم يتذكرونها بمشاعر طيبة ومتسامحة، ولا غرابة في ذلك، لأن أصحابها كانوا شبابا، يتحلون بالنقاء والصفاء.. بل إن الأمر الرئيس في ذلك كان ينحصر في أنهم كانوا يعتبرون أنفسهم مواطنين، يراودهم شعور محدد بكل دقة: الوطن أمانة في عنقك.. ولم يكن هناك أي تسابق على غنيمة أو مال حرام.. وهذا ما زاد من وطأة الحاضر (وما بعد حرب 94م) عندما لم يعد أبناء الجنوب لازمين لأي شيء، فالبلاد قد أخذت منهم، وأصبح مصيرهم بيد غيرهم، هكذا حس الجنوبي أنه قد فقد كل شيء.. ولاتستغربوا إذا قلت إنه في أحد لقاءات التصالح والتسامح، قال أحد الذين نزحوا بسبب تلك الصراعات: «إنها لعزيزة على النفس بصورة خاصة العلاقات التي نشأت في أثناء تلك الاختلافات، ونحن الذين لانزال على قيد الحياة، سواء كنا معافين، أم نعاني الأمراض إلا أننا جميعا أصبحنا بدون مسكن وبدون وطن، والانتصارات على بعضنا البعض التي حاولنا إحرازها ذهبت لأنها في الأصل هزائم». لقد لوح الشيب رأس أصغر مشارك في تلك الصراعات الأيديولوجية، وأصبح أحفاده كبارا، والأسف والندم يعيشان في قلبه.. ولكن الأهم الذي يتمناه هؤلاء لأطفالهم وأحفادهم هو السعادة والوحدة فيما بينهم تحت سماء الجنوب الصافية، وللأرض الغالية جدا التي لامثيل لها أبدا.

إننا نحن الجنوبيين نعرف ما تجلبه الخصومات القذرة في طياتها.. نحن نذكر الصراعات التي فرضها علينا الأعداء ودروس تلك الحروب.. لم يلحق أغلب الشباب العسكريين أن يتزوجوا، وما كانوا يعرفون ضمان الأسرة.. فقط كانوا يخططون بجرأة لبناء وطن عظيم.. كانوا يتحدثون عن النصر بحرارة وعن الشهداء بشغف.. ولكن لم يفكر أحد متى سيبنى هذا الوطن وكيف؟! وفي أيار، مايو انتقلنا إلى صنعاء حاملين الوطن بأكمله وسلمنا مفاتيحه.. لانقاش، ولا حديث.. فقط حلم ودموع وعناق، لقد انتصرنا! تجولنا في صنعاء ونحن مشدوهون من النصر.

ولم نفق إلا ونحن فوق ظهر سفينة هاربين، نبحث عن وطن وعن هوية.. والسفينة- وكما يقال شر البلية ما يضحك- حدث فوقها أكبر تصالح تاريخي لأبناء الجنوب، فقد تجمع فوق ظهرها كل فرقاء العمل السياسي والصراعات الجنوبية من عام 66 حتى عام 1990.. واليوم ونحن نتصالح ونتسامح فلنصغ بانتباه إلى أصوات الذين فقدناهم.. ذلك لأن تلك الكلمات تبدو لنا الآن معنونة إلى من يمعن التفكير بجدية في مغزى الاختلافات.. وأن نكف عن الطيشان وخداع أنفسنا والآخرين، وأن ندرس واقعنا على نحو أعمق.. فنحن اليوم في معركة جديدة وسلمية من أجل استرداد وطن سلب منا بسبب أولئك الذين لايشغل بالهم شيء سوى التفكير بكيف يرفسون ويركلون بتفنن وحذاقة كل من يختلف معهم بالرأي.. إن التجربة المرة التي فرضت على أبناء الجنوب ابتداء بالشهيد قحطان الشعبي وانتهاء بالمنفي علي سالم البيض.. تجعلنا اليوم ننظر بشكل آخر إلى من يحيط بنا، وإلى من يريد أن يربط نضالنا السلمي بنضاله من جديد تحت شعارات جديدة بعد أن استنفذت القديمة.. ولكي نفقد مقدرتنا على العيش في وئام مع بعضنا.

وهكذا، ونحن نتصالح ونتسامح في هذا اليوم التاريخي نرى أن مهمة الجنوبي لاتزال كما كانت عليه بالأمس، ألا وهي أن يكون مناضلا في هذه الحياة وداعيا لإعادة ما سلب منها.. فإذا قادت أخطاؤنا السابقة بعض الناس إلى اليأس والقنوط والخنوع والاستذلال واللامبالاة فليضرب رجال التصالح والتسامح الجنوبيون المثال على الحيوية والعزيمة ونزعة الجدية المعتملة في الصدر وجرأة التصرف وبسالة الإقدام والوفاء بالعهود والحفاظ على القيم الدينية التي فقدناها بعد الوحدة وخاصة بعد حرب 94م.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى