الملامح الفنية المميزة لقصيدة التفعيلة

> «الأيام» صالح عقيل بن سالم:

> يرى الدكتور غالي شكري في كتابه (شعرنا الحديث إلى أين؟ ص114) أن مفهوم الحداثة عند الشعراء الجدد (السياب، البياتي، عبدالصبور، خليل حاوي، أدونيس)، مفهوم حضاري، وهو تصور جديد - تماماً- للكون والإنسان والمجتمع، وهذا التصور وليد ثورة العالم الحديث في كافة مستوياتها الاجتماعية والتكنولوجية والفكرية، ولذلك فهي ثورة عالمية وإن قادتها حضارة الإنسان الغربي، وشعراؤنا الجدد عندما يبدؤون من مستوى هذه الحضارة، فهم يشاركون فيها في الوقت نفسه، والمشاركة لا النقل أو التقليد الأعمى.

ويقول الدكتور عز الدين إسماعيل:«إن الفلسفة الجمالية لهذا الشعر تختلف اختلافاً جوهرياً عن الفلسفة القديمة، وذلك في أنها تنبع من صميم طبيعة العمل الفني وليست مبادئ خارجية مفروضة. فالشعر المعاصر يصنع لنفسه جمالياته الخاصة، سواء في ذلك ما يتعلق بالشكل والمضمون.. وهو في تحقيقه لهذه الجماليات يتأثر كل التأثر بحساسية العصر وذوقه ونبضه..».

ومن أبرز الجماليات الفنية التي حققتها قصيدة التفعيلة في الشعر العربي:

أولاً: الرمز الأسطوري: أتى به الحداثيون ليعمقوا الفكرة التي يسعون لتحقيقها، ومن خلاله تتكون أبعاد وظلال فكرية وعاطفية. ومن ذلك قول الشاعر بدر شاكر السياب في قصيدته (المومس العمياء):

... وأنت ويحك يا أخاها

ماذا تريد، وعم تبحث في الوجوه أيا أباها؟

اطعن بخنجرك الهواء.. فأنتما لن تقتلاها؟

هي لن تموت

سيظل غاصبها يطاردها وتلفظها البيوت

ستظل مارامت سهام التبر تصفر في الهواء

تعدو، ويتبعها (أبولو) من جديد كالقضاء

وتظل تهمس، إذ تكاد يداه أن تلتقفاها

«أبتي.. أغثني».. بيد أنك لا تصيخ إلى النداء

إن استخدام الرمز الأسطوري في غاية الخطورة، اذ يتطلب من الأديب إلماماً كافياً بالثقافات القديمة التي يستقي منها الشاعر أسطورته كما يتطلب - أيضاً- حساً فنياً دقيقاً في توظيف الأسطورة بما يخدم النص، ويرفع من مستواه الإيحائي والدلالي.

فالسياب حاول أن يعمق تجربته بتوظيف الرمز الأسطوري (أبو للو) وهو إله الشمس الجبار، وقصته مع (دفنى) ابنة إله صغير لأحد الأنهار.

لذلك خدمت الأسطورة الصورة التي أرادها الشاعر للموسس العمياء، ففجرت فيها الحركة والصراعات والملاحقة المستمرة.

كما عزز الشاعر صورته الأسطورية بجوانب أخرى، ولاسيما (الدلالة، الموسيقى)، إذ تضافرت مع الأسطورة في خلق تلك الأجواء (الحركة..)، فحروف المد (الياء، الألف، الواو) هي الأدوات التي سخرها الشاعر لخلق أجواء الصراعات وتحريك الرموز الأسطورية ولولاها لانعدمت فاعلية تلك الرموز ولأصبحت سالبة غير عاملة ومعبرة في النص.

ثانياً: تنويع الأوزان: وهو بناء القصيدة على مقاطع شعرية يفصل بينهما بعلامات ترقيم أو فواصل طباعية، ويأتي ذلك لتغير الموقف أو الحالة الشعورية.

يقول الشاعر خليل حاوي في قصيدة (وجوه السندباد):

غبت عني

والثواني مرضت

ماتت على قلبي

فما دار النهار

ليلنا في الأرزمن دهر نراه البارحة

****

وعرفت كيف تمط أجلها الدقائق

كيف تجود، تستحيل إلى عصور

وغدوت كهفاً في كهوف الشط

يدفع جبهتي ليل تحجر في الصخور

نلحظ في هذه القصيدة تناوباً موسيقياً بين وزن الرمل (فاعلاتن) وبين وزن الكامل (متفاعلن) فقد اختار للزمن الماضي وزن (فاعلاتن) وهو من الأوزان السريعة الخفيفة لما في الماضي من ثقل وتجمد، فأراد أن يحركه ويخرجه من حالة إلى حالة أخرى يتمناها.. كما حاول وهو يعبر عن الحاضر أن يأتي بوزن آخر (متفاعلن)، وكان يسعى من خلاله إلى تغيير الموقف الذي ألم به في الماضي، غير أن معاناته كانت شديدة وقاسية، لم يستطع الشاعر أن يخرج منها، ظلت تلاحقه إلى حاضره «ليل تحجر في الصخور».

لقد استطاع الشاعر أن يعبر عن تجربته من خلال تنويع الأوزان الموسيقية، واستخدام أدوات تعبيرية أخرى، وقد كان بارعاً في نقل التجربة المثقلة بالأحزان، فماضيه (جامد) أثقل كل ما استخدمه الشاعر من أدوات وأوزان فاعلة، وكذلك حاضره (أجمد) ويبدو أن تجربته من التجارب النادرة في شعر التفعيلة، ففاعلية التجربة كانت أقوى، عمقها الشاعر بانقياد الأوزان والأدوات التعبيرية الأخرى لها.

ثالثاً: القناع: وهو من أبرز الرؤى الدرامية التي يلجأ إليها الشاعر لتحويل تجربته الشعرية خارج إطارها الذاتي، وهو ما يسميه بعض الدارسين بالمعادل الموضوعي.

يقول الشاعر الدكتور عبدالعزيز المقالح في قصيدة (أحزان الليل الأخيرة من حياة عماره اليمني):

الزمان: تساوي النهار مع الليل في ندرة الضوء لكنه كان ليلاً ثقيل الخطى عابساً، والمكان ذراع من الأرض بزنزانة يتكور فيها السجين الذي سيقدمه الشعر للموت، تركض أشجانه عبر لون السؤال..»

لماذا تغربت عن وطني

وهجرت زبيد التي يتنازعني حبها والحنين على نطع

الموت؟!

لقد حاول الشاعر أن يرتدي قناع (عماره اليمني) ليعبر عن تجربته (تجربة الشاعر العربي المعاصر) فيظل على مبعدة يتخلى عن (الأنا) للآخر ويترك التجربة تغوص في أعماقها، فما كان يعانيه (عماره) قديماً يعانيه الشاعر المعاصر حديثاً، وفي ذلك توكيد لارتباط التجارب وتلاقيها.

إن توظيف القناع لدى الشاعر الحديث - أحياناً - يجنبه مخاطر كثيرة قد يسأل عنها في زمن الكبت وانعدام الحريات.

رابعاً: البناء الدرامي: وهو الذي تتعدد فيه الأصوات والمواقف والتوترات النفسية، ويلخصه كثير من النقاد بأنه (الصراع) في أي شكل من أشكاله.

يقول الشاعر لطفي جعفر أمان في قصيدة (صفية الصنعانية).

كذخائر الدنيا إذا انفتحت سخيه

عدن الغنيه

سكبوا مفاتنها المرجبة الثريه

وهناك في ترف العمارات السَّنيه

وقفت صفيه

تتخطف الأضواء لفتتها الحييه

وعلى ملامحها الطريقه

صنعاء حيه

«يا محسنين

لله..» من باب لباب

راحت تجر جمالها الوضاء في أوج الشباب

وهناك في كنف (المقاهي) واصطخاب العاشقين

الظامئين إلى الدم المبذول في شبق لعين

راحت تغني في افتتان

وتهز أردافاً حسان

لقد حاول الشاعر أن يبني لوحته بصورة درامية معبرة، فالبداية التي تملت بها اللوحة غير النهاية التي اختتمتها اللوحة، فالمفارقة كانت مؤلمة بتغليب النهاية القبيحة على البداية الحسنة.

فالقصيدة مليئة بالتوترات والصراع، حلت وسط مشاعر المتلقي وأثرت فيه، فإذا هو يعيش حالة من الاضطراب والتوترات النفسية، وبذلك ينجح في توظيف الصورة باختيار مفردات وتراكيب دقيقة وصور إيحائية مؤثرة صاغها بأسلوب متماسك عبر عن الفكرة أحسن تعبير.

تلك بعض الملامح الفنية المميزة لقصيدة التفعيلة وهناك ملامح أخرى لا تقل فنية عن تلك الملامح مثل تنويع الإطار الموسيقي والتناوب بين شكلين قديم وجديد، والغموض الذي يكتنف الصورة أحياناً، فهي لا تتحد بعلاقاتها المجازية فقط، وإنما بوظيفتها في السياق الشعري، ودلالتها النفسية والفكرية وقدرتها على نقل موقف الشاعر ورؤيته للحياة والتأثير في المتلقي.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى