هويشة المقاطرة بين الماضي والحاضر

> «الأيام» محمد العزعزي:

>
دار في كهف في الهويشة
دار في كهف في الهويشة
تقع قرى الهريشة شمال قلعة المقاطرة في محافظة لحج، وهي منطقة جبلية معقدة التضاريس تتكون من صدوع انكسارية ضخمة قديمة التكوين الجيولوجي محصورة بين كتل صخرية مرتفعة تسمى (HORST)، وهي كلمة ألمانية تعني عش النسر.

وعدد سكانها أكثر من (1000) نسمة أغلبهم هاجروا إلى أماكن مختلفة، وعندما تشاهد القرى الجبلية في المقاطرة تدهش من قسوة الأرض وتطويع الإنسان لها.

«الأيام» استطلعت هذا الجزء المنسي من أرض الوطن، المعزول عن محيطه الجغرافي والعالم، ويأخذك سحر الطبيعة وقسوتها المتوحشة وإبداع الإنسان وتغلبه على هذه البيئة القاسية، وتبقى جميلة ومتعبة، وتشعر بالعجز أمام صنع الخالق العظيم لهذا الإنسان الذي طوعها لسكنه وخدمته في عالم رهيب يقاوم الفناء بقرى تحمل صفة الخلود والتشبث بالأرض وعشقها حتى الثمالة، في أماكن لايتوفر فيها أدنى مستويات الخدمات الضرورية والأمان.

السواعد السمراء بددت الصعاب في ظل غياب حلول الدولة لبشر يسكنون قرى معلقة بين الأرض والسماء، وعند السؤال لماذا البقاء في أرض تجذر فيها العناء؟ تكون الإجابة: توحدنا مع الأرض، فنبصر بها، ونبدأ اليوم بالتعب أملا بالمستقبل، في جبال شاهقة يسكن أعلاها النسور، وتتناثر القرى تحت أوكار تلك النسور، وكأن أهلها خلقوا لمحاصرة الأرواح الشريرة التي تسكن جوارهم في الأعالي، والهوات العميقة أسفل قراهم. أنامل مبدعة تنقش البقاء في وطن مهدد بالدمار، والدماء خضبت الأرض في مواجهة مع الطبيعة، ويكون الالتحام حتى الموت .

اليتيمة

قال المحامي مفيد علي سيف: «طريق نقيل العتد هو الوحيد الذي يربط قرى الهويشة في المقاطرة بمديرية الشمايتين في تعز منذ القدم، الأطفال، النساء، الرجال يصعدون درج الجبال برحلة يومية لقضاء حوائجهم، فالطفل يناجي الحرف بألوان التعب وانتظار الأمل في المستقبل.

النقيل الموحش تم إصلاحه من قبل منظمة هولندية عام 1988م بمساهمة د. قاسم سلام الشرجبي والوالد علي سيف الهويش ويبلغ طوله (كيلومتر واحد) مخصص للسير على الأقدام، ولايصلح لمرور الحيوانات الكبيرة، ولايسمح بمرور شخصين في آن واحد جنبا إلى جنب».

وأضاف المحامي مفيد: «طالبنا السلطة المحلية بطريق (للحمير)، فأحلامنا متواضعة في (الألفية الثالثة)، ومن يريد أن يبني وطنا يساعد الناس، ويقف إلى جانبهم حتى لاينسون أكثر»، واستشهد قائلا: «الثورة تغيير مستمر بالشعب وبأمال هذا الشعب لتحقيق أهدافه».

قرى الهويشة
قرى الهويشة
التعليم

قال معاذ ناجي علي: «الهويشة ماتزال محرومة من مدرسة أساسية حتى اليوم، فالأطفال يصعدون قبل الفجر إلى مدرسة بعيدة تسمى مدرسة شرف شرجب بالشمايتين، ويقطعون مسافة 4 كم ذهابا وإيابا، أما طلبة الثانوية فأقرب مدرسة تبعد عن القرى 10 كم مشيا على الأقدام، وتزداد معاناة الإناث بالسفر يوميا إلى ثانوية الجيل الجديد مداحج بالشمايتن، ويذهب البعض إلى مدرسة النور بالمعين مقاطرة، وهي لاتقل صعوبة وإرهاقا وبعدا عن سابقتها في مطاردة لانهائية مع الشقاء، وأصبحوا جزءا من تضاريس لاتعرف الرحمة، وبالتعب وضيق العيش صعد من هنا أساتذة جامعات ومبدعون لرفد الأرض بالعطاء الخلاق وكسر حاجز المستحيل».

النقل

قال الأخ عارف سعيد الهويش: «تنقل المواد الغذائية والتموينية على رؤوس النساء وأكتاف الرجال، وأقرب الأسواق مدينة التربة، وتجزأ الحمولات الثقيلة ليسهل نقلها على مراحل، وتزيد الصعوبة عند نقل مواد البناء (الحديد - الخشب - الإسمنت) وبفعل النقل بالطرق البدائية ذهب ضحايا، وقبل 30 عاما حاول البعض استخدام الأنابيب للنقل من أعلى إلى أسفل، ونجحت الفكرة، ومن ثم انهار المشروع بسبب عوامل التعرية».

الصحة

قال الحاج محمد فارع: «من مشاكل القرى انعدام وحدة صحية للإسعافات الأولية ورعاية المرأة والطفل، وأقرب وحدة صحية بعيدة عن المساكن التي تقع في منطقة المعين غرب المقاطرة، وتبعد 8 كم بأرض وعرة وبدون طريق صالحة للمشي بالرجل، ولاتوجد بتلك المنشأة الصحية أدنى متطلبات الرعاية والدواء الضروري، وكل حالات الولادة تتم في المنازل بالطرق التقليدية، وتتعرض النساء لأمراض مختلفة، ويذهبن ضحية الولادات المتعسرة أحيانا، وتنتشر أمراض الكزاز والملاريا والتيفود والحميات، وعند المرض الشديد يضطر الناس إلى حمل المرضى على الأكتاف إلى رأس النقيل وصولا إلى مستشفى خليفة بالتربة».

صخور منهارة
صخور منهارة
المياه

قال صديق عبدالغفار محمد: «هذه المنطقة محرومة من شربة ماء نظيفة، ويعتمد الأهالي على مياه العيون والينابيع المتواجدة في المنحدرات الخطرة (الضياح) ويجلب بواسطة أنابيب بلاستيكية (بيبات) والعيون (الرجع - الحدأ - الشراك) هي أهم الأماكن لمياه الشرب والاستخدامات المنزلية، وتجمع بخزانات صغيرة تسمى (برك)، مكشوفة وغير صحية، ويتم تسريبها إلى المنازل، ويعتمد بعض السكان على السقايات التي تملأ بالمطر، وتستخدم لجميع الأغراض أثناء فترات الجفاف».

الزراعة

قال رضوان عبد الوارث : «أنا من السكان المهاجرين من المنطقة لوعورتها وعدم توفر الحد الأدنى من الخدمات فيها، ويعتمد القاطنون بالهويشة على زراعة القات الذي يعتبر الدخل الأساسي لمعيشة الناس، ويحمل على الأكتاف، ويتم بيعه في أماكن الاستهلاك بالشمايتين، وتزرع أصناف الحبوب الغذائية في الصيف أثناء هطول الأمطار الموسمية، والحبوب لاتكفي حاجة السكان، ويعوض العجز بشراء القمح من الأسواق ويصل بصعوبة إلى المنازل، كما تربى الأبقار، وتشترى وهي صغيرة من التربة وقرى الشمايتين ليسهل حملها فوق الأكتاف أثناء إنزالها عبر نقيل العتد إلى قرى الهويشة بالمقاطرة».

الانزلاقات الصخرية

قال عبدالوهاب عبدالواحد هاشم: «هذه الظاهرة شائعة في جبال هويشة المقاطرة، وهي عبارة عن حركة كتل صخرية صلدة وضخمة في الغالب، وتتحرك في عملية انزلاق مصحوبة بحركة هبوط قوية تحدث هزات تؤثر على زجاج نوافذ المنازل، وتجرف التربة وتدمر النباتات.وتلعب الفواصل والشقوق وسطوح الانفصال دورا هاما في عمليات الانزلاق، وهي أشد الانهيارات الأرضية تدميرا وأبعدها أثرا بسبب السرعة وعنصر المفاجأة، وتحدث بين الحين والآخر على حين غرة، وقد تكررت هذه الانزلاقات في فترات زمنية متقاربة، وتزداد المعاناة بمواسم الأمطار، وكان آخرها قبل عامين حيث دمرت الأرض وجرفت التربة والأشجار المثمرة والطبيعية في المدرجات الزراعية، ولم يعوض المواطنون من الجهات الرسمية، وناشد عبدالرحمن شمسان جهات الاختصاص مسح وعمل خرائط جيولوجية وحماية القرى من الانزلاقات الصخرية المتكررة».

دار في كهف في الهويشة
دار في كهف في الهويشة
معالم

دار اللكيمة: بنيت الدار على تلة صخرية مرتفة قبل 200 عام، وماتزال محافظة على وجودها ومأهولة بالسكان، ويعتبرونها امتدادا أصيلا لماضي الأجداد، وهذا سبب بقائها قائمة حتى اليوم، والمشاهد لهذه الدار يتذكر دار الحجر بصنعاء، وتتكون من ثلاث طوابق عالية وتعتبر حصنا منيعا تقابل القلعة وبها مسجد وسقاية مياه.

الطبيعة: تكتسي الأرض حلة بديعة من الأشجار الطبيعية، وتمتزج الخضرة بالتضاريس الجبلية فيتمتع بها المشاهد، ويعاني منها الساكن.

العجيل: قبر يرتفع نصف متر، يرابط جوار المنازل، ويعتبر العجيل من مشائخ الصوفية، وكان مزارا تدور حوله الأساطير، واليوم لم يعد سوى قبر يجاورهم.أعراف: تعارف الأهالي على عدم رعي الماعز في الأماكن التي تعلو طريق المارة الوحيد حفاظا على الأرواح بفعل حركة الماعز، واتفقوا مع أهالي شرجب في هذا الأمر.

غرائب قاهرة: القادم إلى القرى النائية يستغرب وصول التيار الكهربائي إلى المنازل، وانعدام كل الخدمات الأخرى، بعد معاناة وجهد وخسارة في التركيب وإيصال الكامبات (أعمدة التوصيل) وتجديد الشبكة وتظافر الجهود. ولم ينس المواطنون شكر المهندس هلال نعمان لتعاونه معهم في إيصال الكهرباء.

مدام إينيس: أول امرأة هولندية تصل إلى قرية الهويشة، وهي زوجة القائم بأعمال السفارة الهولندية بصنعاء، استقبلت بحفاوة ولبست الزي البلدي وأكلت وجبة (العصيد) مع نسوة القرية، وقال مواطن «وصلت مواطنة هولندية إلى قرانا ولم تصل الدولة حتى الآن!».

أمنيات

تمنى الأهالي بناء مدرسة أطفال، ومشاعر الحزن والأسى على أطفالهم الذين يقطعون منحدرات الجبال الشاهقة سيرا على الأقدام لمسافة طويلة. طلبة الهويشة يحتاجون مساعدة عاجلة لإيصال هذه الخدمة لحفظ الطفولة التي مازالت خارج مسار الزمن، وفي عصر غير عصرهم، كما تمنوا بناء وحدة صحية لإنقاذ حياة النساء والأطفال وبناء معهد نسوي.

ومن الأماني المقرونة بالرجاء سرعة شق طريق للحمير لإيصال المواد الأساسية، وفي عيد الأضحى اجتمع الأهالي بنائب الدائرة عبدالله محمد صالح المقطري وعضو محلي المحافظة باسم الزريقي وعضوي محلي المديرية الشيخ جميل سلطان ووقفوا على حجم المعاناة، وتبرع النائب بمائة ألف ريال لهذا المشروع لربط الهويشة بالمعين، والاستفادة من النفق الذي يربط شرق المقاطرة بغربها وأول من بدأ بحفر النفق المرحوم فيصل أحمد عبده وآخرون.

دار اللكيمة
دار اللكيمة
ملمح تاريخي

اشتهرت قلعة المقاطرة بأنها حصينة، قاومت الغزاة وعرفت بتاريخها البطولي والنضالي ضد الأتراك والأمامة. الاعتزاز بالنفس والشموخ من سمات أهلها فلا يساومون من أجل مصلحة، مقاومون، مقاتلون بشراسة ومعارضون أقوياء، ولاتقل النساء بطولة عن الرجال في مواقف الحسم، دافعن عن القلعة أثناء انتفاضة حميد الدين الخزفار ضد الإمام يحيى وقاتلن باستماتة إلى جانب الرجال، وحملن السلاح دفاعا عن الكرامة. أبناء المقاطرة ثورة شعبية في سياقها التاريخي وانطلاقة لحركة التحرر الوطني، وامتاز المقطريون بالشجاعة ومواكبة فكر التحديث والانتصار لقيم العدل والحرية.

وبعد

اشتهرت ناحية المقاطرة المنيعة والحصينة عبر الحقب، كما اشتهر رجالها بالحنكة والبطولة، وأثبتت الوقائع والأحداث أن الصوت المعارض يتعالى عبر المنطقة الباسلة التي استطاعت في الفترة الماضية إبان الغزو التركي والحكم الإمامي دحر الغزو والتسلط، وكان لها الدور القوي والفاعل من خلال ثبات رجالها ونسائها على رفع الصوت المعارض والمقاوم، ومن خلال استقرائنا للتاريخ وبالأخص الذي أرخ لهذه القلعة ورجالها البواسل يتبين لنا جليا أن الظلم بكل جبروته وطغيانه وقف عاجزا أمام الإرادة الشعبية الصلبة التي تتمتع بحس ثوري مسئول ينشد العدل المفقود.

بهذه العجالة أردنا أن نبرز للجميع الأنموذج الحي لفرادة الصوت الشعبي المعارض، والدور الريادي لأبناء هذه المنطقة، وقلعتها الشامخة، الذين سطروا أروع الملاحم البطولية عبر الأزمنة.

واليوم المقاطرة منسية في جغرافية المكان يلفها البؤس والحرمان ومعزولة بين المكان والزمان، أهلها الطيبون مرهقون، فمتى تجد الرعاية والاهتمام.. إنها تفتقر لمقومات الحياة! هذه هي المقاطرة كما هي.. لا أزيد.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى