في ذكرى الموسيقار الراحل جميل غانم

> «الأيام» أنور مبارك:

> يصادف الخامس من يناير من كل عام ميلاد الفنان الكبير الموسيقار جميل غانم، المولود في عام 1941م، والذي رحل عن عالمنا في 1990/9/1م، بعد أن عاش هذا العلم اليمني البارز في حقل الموسيقى والتربية الموسيقية والفنون الجميلة ككل حياة زاخرة بالعطاءات والإنجازات، مازالت بصماتها بارزة وماثلة أمام أعيننا ومؤثرة في حركتنا الفنية، أبرزها (معهد جميل غانم للفنون الجميلة) الذي أطلق عليه اسمه تخليداً وتكريماً لدوره العظيم في تأسيس هذا الصرح الفني الشامخ، إلى جانب إنجازات وإبداعات أخرى سوف أستعرضها في مقالي هذا .

عاد الفنان جميل عثمان غانم من دراسته الأكاديمية في بغداد نهاية الستينيات، وفي مخيلته تبلورت العديد من المشاريع الإبداعية، وطموحات لا حدود لها برزت لنا وعايشناها فيما بعد بشكل متلاحق .

عرفت الموسيقار جميل غانم في بداية السبعينيات، وأنا في أولى خطواتي الفنية، واسترعى انتباهي جهوده الدؤوبة وحيويته العالية ومحاولاته الجادة لكي تثمر بذور عمله وتحصيله العلمي في إفادة بلده ومجتمعه، وتسخير كل خبرته العلمية الموسيقية لإرساء قواعد أساسية لفنونها تستند إلى العلم والمعرفة، وتطويرها بطرق علمية مدروسة، خاصة التراث والموروث الشعبي الذي أعطاه أول اهتماماته، تجسد ذلك في تكوين أول فرقة شعبية خالصة (تخت يمني) تعزف على الآلات الشعبية التقليلدية المتوارثة مثل: العود الصنعاني والسمسمية والمزمار والبزُق والطاسة والهاجر والمراوس، وجاء بعازفين لديهم الخبرة والمعرفة في التعامل مع مثل هذه الآلات مثل الفنان القدير أنور أحمد قاسم على العود الصنعاني، ومحمد الخزقة على البزُق، وناصر جعبل على المزمار وغيرهم، وقدمت هذه الفرقة العديد من الأعمال التراثية والفلكورية مسجلة لدى الإذاعة.

بعد فترة قصيرة وبحكم أنه كان من الخريجين الأكاديميين القلائل في مجال الفنون في تلك الفترة، وبعد أن بدأت ما لديه من ملكات وقدرات موسيقية تبرز انتدب من قبل وزارة الثقافة التي كان منخرطاً في إدراتها للمساهمة في تأسيس الفرقة الوترية للقوات المسلحة إداريا وفنيا، التي كانت تضم تحت لوائها العديد من الموسيقيين والفنانين المعروفين، وسريعاً ما ثبتت هذه الفرقة أقدامها بفضل جهوده، وقدمت العديد من الحفلات والأعمال والأبريتات الغنائية، وتعدى نشاطها محافظة عدن إلى محافظات الجمهورية المختلفة، وكسبت شعبية وشهرة واسعة.

وبعد انتهاء مهمته هذه عاد لعمله الرسمي في وزارة الثقافة في بداية عام 1972م ليواصل مشاريعه الإبداعية، ووضع الأسس الأولى لتشكيل فرقة وطنية تضم أفضل ومعظم العازفين والفنانين الذين كانوا يمارسون نشاطهم الإبداعي كهواة في فرق أهلية مختلفة ومعروفة، وعملهم الأساسي موظفون في السلك المدني في دوائر حكومية مختلفة ليس لها علاقة بالفن والموسيقى.

وعمل فناننا الكبير جميل غانم جاهداً على استخراج قرار رسمي بتفريغ هؤلاء من أعمالهم الرسمية لستة أشهر كخطوة أولية، وأن تكون ممارسة بروفاتهم وتدريباتهم في الفترة المسائية فقط حتى يخلق الأجواء المناسبة لنشاطهم الإبداعي من جهة، ومن جهه أخرى يعكس شعور الاعتراف بجهود المبدع على أنهم كمبدعين يستحقون أن يجمعوا أنفاسهم في متسع من الوقت، ويركزوا تفكيرهم ليقدموا عطاءات متطورة، ويكون لديهم من الوقت ما يسمح لهم بالتطور والاطلاع على كل مستجدات الفنون .

وفعلاً بعد سنين قليلة جداً تم تحويل جميع المبدعين من دوائرهم مالياً وإدارياً إلى وزارة الثقافة، ومازالوا يحظون بهذا المنجز العظيم حتى يومنا هذا.

لم تقف طموح وآمال هذا العظيم عند حدود معينة لكنه كان يملك أفكاراً وخططاً تتبلور باستمرار في مخيلته، وتلقى قبولاً من قبل قيادة وزارة الثقافة حينها وعلى رأسها الوزير الأديب المناضل عبدالله باديب-رحمه الله، حيث كان الاتجاه الرسمي يسير ويؤكد أن الفن بمختلف أشكاله خاصة الموسيقى والغناء ظل المعبر الحقيقي عن التطورات الجديدة بعد أن تألقت أوائل هذه التطورات في منتصف الخمسينات من عدن، وأن الفن اليمني يجب أن يدخل مرحلة جديدة من التطور ليلحق بركب التقدم، ويجعله ملائماً مع التطور العلمي في شتى العلوم ومظاهر الحياة الجديدة، ولن يتحقق ذلك إلا بتأسيس معهد موسيقي يسهم في التربية الفنية السليمة، ويرفد المجال الفني بكوادر مسلحة بالعلم والمعرفة، ويكون مساعداً لمن يريدون أن يطوروا من مداركهم الفنية للمنشغلين في الموسيقى أو من يجد من هواة الموسيقى في نفسه الموهبة والاستعداد للدراسة الموسيقية والتعرف على أسرارها.

وفعلا في بداية عام 1973م تم افتتاح معهد الموسيقى في مقره السابق بحافون بالمعلا وسخرت له الإمكانيات الإدارية والمناهج والآلات الموسيقية المختلفة ونظام دراسي حر لمدة ثلاث سنوات، بعدها يتخرج الدارس بشهادة (دبلوم موسيقى) معترف به من وزارة التربية والتعليم، وأسهم بالدراسة كفاءات علمية محلية أكاديمية أمثال الموسيقار يحيى مكي والفنان الكبير أحمد بن أحمد قاسم والفنان القدير أحمد بن غودل وآخرين ومدرسون من دول شقيقة مثل مصر ودول أجنبية مثل الاتحاد السوفيتي سابقاً. ولم تقتصر جهود فناننا العزيز الأستاذ جميل غانم على المساهمة بتأسيس هذا الصرح بل كان يسهم بالتدريس لمواد مختلفة خاصة آلة العود فقد كان يعتبر مدرسة مستقلة في عزفه وخبرته (سأستعرضها فيما بعد)، وتاريخ الموسيقى وغيرها من المواد التعليمية.

في عام 1976م تخرجت الدفعة الأولى في المعهد ومن أبرز هؤلاء كاتب هذا المقال والقائد الموسيقى عازف الكمان الكبير نديم عوض والفنان عبدالله بافضل والفنان الراحل عوض سليمان رحمه الله والمايسترو أنور عبدالخالق والفنان خالد باوزير رحمه الله والفنان القدير نجيب سعيد ثابت الذي اكتشف موهبته جميل غانم في الغناء والتلحين في وقت مبكر وتبناه وشجعه، وقدم له أول لحن خاص به (خصامك زاد)، وكذلك الفنان عبدالحكيم حيدر الذي أصبح أفضل عازف ناي على مستوى الجمهورية، وعازق الكمان البارع كمال شوذري، والمايسترو والباحث الموسيقي عبدالقادر أحمد قائد والمايسترو سعيد فندة رحمة الله، وآخرين. وكما نرى أن معظم من تخرجوا أكانوا من المشتغلين بالموسيقى من سابق، أو من بدأوا نشاطهم الفني من المعهد قد أصبحوا فعالين ولهم شأن أكان على مستوى الغناء أو التلحين أو من تبوأوا مراكز قيادية إبداعية في حركتنا الفنية، ولا ننسى أيضا أنه منذ العام الأول من الدراسة في المعهد ولسنين عديدة عمل فقيدنا الغالي الموسيقار جميل غانم على إرسال من برزوا في دراستهم في بعثات للدراسة العليا بالخارج، وأبرزهم المايسترو الدكتور أنور عبدالخالق والمايسترو الباحث عبدالقادر أحمد قائد والمايسترو الراحل سعيد فندة رحمه الله.

في عام 1974م وبعد استكمال تأسيس معهد الموسيقى بدأت الخطوات الأولى لتشكيل فرقة الرقص الشعبي، وبذلت جهود عظيمة من قبل فناننا جميل غانم لتكوين هذه الفرقة، حيث تم النزول إلى مختلف مدن وريف محافظات الجمهورية، والقيام بمسح ميداني لجميع رقصاتها الشعبية وإيقاعاتها وأزيائها وإكسسواراتها حتى يتم تصميمها وإخرجها وتقديمها بطريقة علمية مدروسة بدون المساس بجوهرها، واختير الراقصون والراقصات من طلبة وطالبات تم اختيارهم من المدارس الثانوية، الذين كان يتوسم فيهم الموهبة والاستعداد، وتم تدريبهم من قبل الخبير الروسي (البرت)، ووضع بعض موسيقى الرقصات بمختلف ألوانها وإيقاعاتها الموسيقي البارع الملحن أحمد بن غوذل وعازف المزمار محمد راجح شريان، وحققت الفرقة عروضها خلال فترة قصيرة ونجحت نجاحاًً منقطع النظير وكانت القاسم المشترك لكل الحفلات بتقديمها الرقصات الشعبية لكل مناطق اليمن شماله وجنوبه وشرقه وغربه، ومثلت اليمن في مهرجانات ومحافل دولية، ورفعت اسم اليمن عالياً بين الأمم، ومن بين أعضائها من أرسل أيضا للدراسة العليا بالخارج، وعادوا ومايزالون يلعبون الدور الريادي في تدريب الفرق الرسمية والشعبية حتى يومنا هذا.

وفي عام 1977م استكمل المعهد أقسامه بتشكيل قسم المسرح ليصبح (معهد للفنون الجميلة)، وقد ساهم المخرج الكبير والأستاذ القدير أحمد محمد الشميري بوضع النظام الأساسي، وسخر كل خبرته العلمية والعملية بتأهيل وتدريب الملتحقين للدراسة من الكوادر المسرحية من المشتغلين في التمثيل أو من الهواة الجدد، وتم أيضا إرسال البارزين منهم في بعثات عليا للخارج، ثم تبعه تشكيل قسم الفنون التشكيلية .

كان موسيقارنا الراحل جميل غانم ذا موهبة وذكاء وعقل وتفكير، ذكياً بمواكبته التطور بموهبته المتحركة، ومواكبته العصر ساعده على ذلك ثقافته الصحيحة والواسعة التي أهلته أن يكون العالم الموسيقي والتربوي القدير والإداري المحنك والعازف الماهر على آلة تخصصه الأساسية آلة العود، والذين عايشوه في تلك الفترة من عصره الذهبي وجدوا أنفسهم ليس أمام مجرد مداعب أوتار بارع بل كان مدرسة بعزفه وتعامله مع العود وإثبات مكانة هذه الآلة وقدراتها التعبيرية الخلاقة، كانت تقاسيمه على آلة العود ليست تقليدية وإنما تستند إلى قواعد وأسس أثبتت أن التقاسيم على آلة العود فن قادر على تجاوز حدود الطرب والتطريب إلى مستوى التعبير الفني الراقي، ورغم اتساع خياله الفني في التقاسيم وتطبيقه التقنية المنهجية على عزف العود لم يتخل أو يستبعد الغريزة الفنية الأصلية التي ارتبطت بآلة العود لمئات السنين، حيث كان ينتقل من المقامات الغربية الخالية من ربع التون (الصوت) إلى المقامات الشرقية بحرفنة ورؤيا علمية، ينقل المستمع من أعلى مستوى من الرقي الفكري والذهني ويدخله في روح التراث الموسيقي العربي وتراثنا اليمني الأصيل .

وخلال الرحلات الخارجية الفنية لفرقة الرقص الشعبي الوطنية في منتصف السبعينات إلى دول أوروبا الشرقية ومدن الاتحاد السوفيتي سابقاً كان فناننا الرائع جميل غانم يقدم عزفه المنفرد على العود بين الفقرة والأخرى، وكان الجمهور الأوربي يعيش في متعة وذهول أمام قدرات هذا المبدع وآلته التي قد يكون سمعوا عنها ولكنهم لم يعيشوا معها عن قرب . رفع اسم اليمن عاليا واشتهر اسمه وبرز في المحافل الدولية والمهرجانات الموسيقية التي كانت تقام في بعض الدول العربية في تلك الفترة ، حيث كانت تقدم له دعوات رسمية للمشاركة في مسابقات فنية في إطار العزف المنفرد على العود، ونالت اليمن ممثلة به الجوائز القيمة والمراكز المتقدمة .

لقد أثرى موسيقانا الراحل جميل غانم حياتنا ووجداننا ووعينا الفني وحركتنا الفنية بعطائه السخي. وأرجو من وزارة الثقافة تكريمه التكريم اللائق لمسيرته الفنية الزاخرة بالعطاء، والاهتمام بتطوير معهد جميل غانم للفنون الجميلة ودعمه، الذي يعد عند إنشائه أول معهد للفنون على مستوى الجزيرة العربية والخليج، كما أرجو من قيادة القناة الثانية والبرنامج الثاني بعدن أن يهتموا بأعماله الموسيقية بالغة الرقي والمسجلة في أرشيفهم، وتقديمها في برامجها الثقافية والفنية، وتعميمها على قنواتها الفضائية (اليمن واليمانية) الجديدة .

وفي هذه العجالة لا نستطيع أن نتخطى شخصية إبداعية عظيمة من نوع آخر، وهو الأستاذ القدير المبدع كامل فخري، الذي ارتبط ارتباطا وثيقا بحياتنا الفنية، وكان اليد اليمنى لموسيقارنا الراحل جميل غانم والدينامو المحرك لتنفيذ خطط وبرامج المعهد والمشرف الفني لجميع نشاطات الفرق الفنية منذ تأسيس المعهد وحتى بعد انفصال الفرق الفنية عن المعهد لتصبح إدارة إنتاج الفنون. كان كامل فخري وراء نجاح العديد من الفعاليات الوطنية والشعبية، أكان على مستوى الداخل أو تمثيل اليمن بالخارج، وحتى وقت قصير قبل أن يقعده مرض السكر الذي أدى لبار إحد ياقيه. هذه كلمة صدق ووفاء قليلة في حقه، راجيا أن يحظى بالرعاية والاهتمام من قبل قيادة محافظة عدن ووزارة الثقافة، وهو الذي أفنى عمره في خدمة الحركة الفنية اليمنية والوطن .

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى