«الأيام» تطوف بديار قلعة المقاطرة وزريقة الشام:لوحات طبيعية معلقة تحاصرها وعورة المكان وأسوار العزلة والحرمان

> «الأيام» علي الجبولي:

>
في هذا الاستطلاع ترحل «الأيام» بالقارئ الكريم إلى قلعة المقاطرة مرورا بالتربة قبل أن تحط الرحال في زريقة الشام وسلسلتها الجبلية الوعرة ،لتنقل من هنالك لوحات بيئية متميزة تتخللها مشاهد من تحدي الإنسان لقسوة الطبيعة وشظف العيش والحرمان.

تلك البلدة التي يئن سكانها تحت ثقل عزلة طبيعية فرضتها وعورة المكان، وعزلة اجتماعية بفعل تأخر الزمان وأنانية الإنسان . مثلما لا تخلو الرحلة من وحشة وروع الدروب المعلقة في سفوح وصدور الجبال الشاهقة، فإنها تحفل بروعة مترعة بجمال جذاب، تشترك في رسمه تضاريس طبيعة مزدانة بغطاء نباتي نادر، وعمارة معلقة على صدور وأحضان الجبال الشامخة،أو فوق قمم مرتفعات عالية. لوحة مشاهد متحركة تبدأ من معبق فطريق هيجة العبد قبل أن تطوف بالتربة في طريقها إلى زريقة الشام تلك الجبال الشاهقة التي لا يدري من يمتطيها،هل السحاب يمر فوقه أم هو يعبر فوق السحاب! إلى حيث أوكار النسور والعقاب في تلك الجبال العالية التي يتبادل فيها الإنسان والطيور الجارحة التحليق، تارة تحلق فوق رأسه وأخرى هو يحلق فوقها ، فلتبدأ الرحلة .

كانت ساعة الصباح لم تصل السابعة بعد حينما شددنا الرحيل إلى بلدات لا نعرفها وإن سمعنا ببعضها. إصرار الأستاذ عبد الرزاق المجيدي مدير عام مديرية المقاطرة، رئيس المجلس المحلي على زيارة وتعرف مناطق وقرى المديرية التي تولى إدارتها مؤخرا، وإلحاحه على مرافقة «الأيام» استنفد كل الأعذار. قد يكون كثرة شكاوى أهلها وتوسلاتهم للسلطة المحلية بالتعرف الميداني على أوضاع مناطقهم ومعاناتهم أملا في توفير أبسط أولويات الخدمات، الطريق، المدرسة، الصحة، والماء، هو ما حفز المدير العام على جولة المغامرة إلى تلك المناطق الجبلية في غرب المقاطرة الأكثر عزلة بالعوامل الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية. وربما هدفت الزيارة لغرض آخر ـ أو هكذا اعتقدت ـ هو توزيع الخدمات الشحيحة للمحرومين أولاً ومن هم في أمس الحاجة إليها، خاصة وأن توزيع الخدمات وتحديد نوعها ومناطق الاحتياج في هذا الوطن لا يتم وفق أسس التخطيط والدراسات ولكن وفق الوجاهات والفهلوة والقدرة على فرض الذات .

عبر وادي معبق انطلقنا. على امتداد الوادي بطول نحو 17 كم ضجيج غير معتاد، إنها حركة آليات ومعدات وعمال يشقون طريق طور الباحة ـ المقاطرة، المرحلة الثانية من طريق التربة ـ طور الباحة ، بتمويل من البنك الدولي يربو على مليار وثلاثمائة مليون ريال . يصارعون طريقاً وعراً تسببت بلادة التخطيط في اختيار مساره في عرض جبال شديدة الصلابة، وفي التهام كثير من الأرض الزراعية على ضفتي الوادي، حتى كأن بمزارعيها يحسون بالطريق يلتهم أكبادهم قبل أرضهم. يقول جمال أحمد شمسان ممثل المنطقة في محلي المقاطرة عن هذا الطريق الذي لا يخلو من مؤشرات وإرهاصات تعثره (كان الخطأ الأول في اختيار مسار الطريق في الضفة الجنوبية الغربية من وادي معبق حيث تكثر الأرض الزراعية والمنازل وفوقها جبال عالية قفر من السكان، تتدفق منها السيول على الطريق، بينما الكثافة السكانية مثل مناطق حدادية والصوالحة والمساحة الواسعة لعبورها كانت في الضفة الشمالية الشرقية، وهذا يتطلب من جديد إيجاد فرع للطريق نحو تلك المناطق. من عيوب الطريق ما يتجلى في الأعمال الإنشائية التي تعد شاهدا على العشوائية والعبث بخيرات الوطن. الأمر لا يحتاج إلى أكثر من النظر بالعين المجردة لكشف العيوب، ضيق الطريق، جسور بدون حماية، طبقة إسفلت رقيقة كأنها لاصق قد بدأ يتفكك، تركيب أنابيب «عبارات» قطرها لا يتجاوز 30هنش لتصريف المياه لا تصلح حتى لمجاري حفرة راشحة، فما بالكم بسيول جبال محملة بالأحجار والأشجار سوف تسدها بلا شك. وهو ما حصل في الصيف الماضي حينما سدت بعضها وجرفت أخرى، لكن جهة التنفيذ أصرت على الخطأ وأعادت تركيب تلك العبارات. لا من خطط مسار الطريق ولا جهة التنفيذ راعى مصالح المواطنين والمزارعين. شكاوى المواطنين الذين خربت أراضيهم ومنازلهم وبياراتهم أحرجت المجلس المحلي، فجهة التنفيذ لم تضع عبارات تتسع للمياه دون تغيير مجاريها بل غيرت مسارات سواقي المياه من اتجاه إلى آخر، وهذا ما خلق النزاعات بين المزارعين. تواصلت قيادة المجلس المحلي أكثر من مرة مع مهندسي التنفيذ ، لكن الوضع ظل كما هو. في رمضان الماضي التقت قيادة المجلس بقيادة السلطة المحلية بالمحافظة ووزير الأشغال لمناقشة هذه المشاكل وكان الوعد بإنزال فريق فني برئاسة وكيل الوزارة ولم ينزل الفريق. ومرة أخرى التقت قيادة المجلس ومشايخ المنطقة بنائب المحافظ، أمين عام المجلس المحلي للمحافظة وبحضور مدير عام الأشغال وممثل الشركة المقاولة وتم الاتفاق على أن تلتزم الشركة بالخارطة والتصاميم وتسلم المجلس نسخا منها لمراقبة التنفيذ، مع ذلك لم تلتزم ولم تصلح ما خربته في أملاك المواطنين).

ما أن تستكمل السيارة وادي معبق حتى تلوح قرية (نجد البرد) تستلقي عند قدمي قلعة المقاطرة، مبنى سور جديد شبيه بتلك الأسوار التي تبتلع أراضي ضواحي عدن وهو يطوق مساحة كبيرة من إحدى التباب غرب نجد البرد. قيل لنا إنه سور أرضية المعهد المهني ـ التقني الذي سيمول إنشاءه الصندوق السعودي للتنمية بنحو مليار ريال يمني .

منعطفات موت وصخور تتدلى فوق الرؤوس

عند نجد البرد ينتهي الوادي وطريق الحصى ليبدأ طريق إسفلتي مخيف ومحير، إنه طريق التربة - المقاطرة، أو التربة - هيجة العبد كما يحلو لبعضهم أن يسميه، الذي مول مرحلته الأولى البنك الدولي بنحو ثلاثة ملايين دولار، ناهيكم عن الأعمال الإضافية . ممر ضيق سفلت في الجبل عمودياً من رأس قلعة المقاطرة حتى قدميها في قرية نجد البرد ، يبدو للناظر كحلزون يتلوى في طول وعرض جبل القلعة بطول نحو 9 كيلومترات، يندر أن يوجد له مثيل ليس في وعورة الجبل الذي شق فيه فحسب ، ولكن في المغامرة التي لا تأبه بحياة الإنسان. عندما يقال لك وأنت أسفله انك ستعبر تلك الضياح وستصل إلى تلك القمة الشاهقة تنتابك حالة من الصمت وأنت تتخيل حالك وحال هذا الطريق، وتعد صعود سيارتك ضرباً من الاستحالة إن لم يكن جنوناً. أما حينما ترفع رأسك إلى الأعلى وتشاهد سيارة تلوح في قمته أو تتلوى في هيجة العبد تتخيلها نحلة ستقع حالاً عند قدميك. كانت أشعة الشمس ما تزال تطارد بقايا غيوم باتت على قلعة المقاطرة والسلسلة الجبلية المتصلة بها وتنقض لهتك ستر أسراب سحب يبدو أنها تقلع على عجل من (حضن صيرة كريتر) لتسافر شمالاً فوق رؤوس طالعي القلعة.

بدأت السيارة الصعود، الطريق يزداد ضيقاً من موضع إلى آخر حتى يتراجع إلى أقل من 3 أمتار في غالب الأحيان، تجتاز السيارة منعطفا لتلج آخر. شيء من الرهبة والوجوم يلف الجميع. حينما لمحه أحد المرافقين في وجوهنا قال (كيف باتفعلوا بطريق منيف، عاده أسوأ). رائع أن يتحدى الإنسان قسوة الطبيعة ويصمم على تذليلها، لكن وفق أسس فنية وعلمية آمنة المخاطر وليس بمغامرة عشوائية. تواصل السيارة تسلقها. صخورا فككتها التفجيرات فأضحت تتدلى والسيارات تتسلل من تحتها كطفل يلهو تحت رافعة معلقة في السماء وفي أسنانها أطنان من الحمولة. طبقة الإسفلت هي الأخرى لا تخفى عيوبها للمشاهد العادي، إذ تظهر تحته الصخور الصلبة التي نثر عليها كأنه مسحوق لإخفاء التجاعيد وليس لتعبيد طريق. لمدارة الخوف انشغلت بتدوين مشاهد ، أو البحث عن مشاهد جميلة بين فكي وحش الخطر. كان المشهد الأجمل منظر أسلاك كهرباء تنثال كضفائر غانية فوق متون قلعة المقاطرة حتى تلامس كاحليها عند قرية نجد البرد ، وكان المفترض أن تتمدد جنوباً، لكن تسع سنوات ولم تتمدد على الواقع ماعدا في الأحاديث الرسمية و برع الانتخابات.

إدمان الترقيع

خلال أمطار شتاء العام الماضي تساقطت كثير من الصخور الضخمة على طريق قلعة المقاطرة فهدمت مواضع منها وبعضها نشب في قلب الطريق ولا يزال مغروساً، وأحجار تساقطت وما زالت تحتل أجزاء من الطريق، وبعضها يقطعه بالكامل فتجبر السيارات على المرور فوقها دون أن يزلها أحد. «الأيام» وحدها تناولت حادثة تساقط الصخور معززة بالصور حينذاك، مع هذا لم يعرها أحد اهتماماً. سألت المدير العام، لماذا لم تخاطبوا الجهات المعنية لرفع الصخور من الطريق وإعادة إصلاح ما هدمته؟ قال:«وجهنا تسع مذكرات لم يستجب لها أحد». مثل هكذا طريق أو معبر موت لن يقدر له أن يعمر كثيراً ناهيكم عن أخطاره على الإنسان، أما كان الأجدر أن توجد وحدة صيانة مقيمة في المنطقة لصيانته ورفع الصخور المتساقطة وإصلاح المواضع التي مزقتها قبل أن يهوي ويقال عنه (كان حلما فهوى). لكن يبدو أن سلطة حكم هذا الوطن لا تمارس الترقيع في الثوب السياسي فقط كما عودتنا، ولكن فاسديها ومتنفذيها يرقعون أيضاً في كثير من مجالات الحياة حتى التي لا تقبل الترقيع. لم يكن اختيار مسار طريق التربة ـ هيجة العبد الاختيار الأمثل والأصلح مع وجود بدائل أفضل وأجدى وأكثر أماناً بشهادة كثير من المواطنين. ثم إن التشققات والشروخ وتساقط الصخور على الطريق دون أن يرفعها أحد يفضح عمق اللا مبالاة بحياة الإنسان.

منجزاتكم معاقــة

يقول شائف الأكحلي أحد بناء المنطقة: «اختيار مكان شق الطريق لم يخضع للدراسات والمواصفات ولكن للمجاملات، كان باستطاعة من صمم واختار المكان اختيار مسار أفضل، يوفر ولو قدراً من الأمان والتكلفة، وأن ينفذ الطريق تنفيذاً آمناً خالياً من العيوب والمخاطر من خلال توسعتها ووضع حواجز حديدية، وإقامة جدران حماية حيثما توجد هاوية، وإزالة الصخور التي شققتها التفجيرات ثم تركت تتدلى فوق رؤوس المسافرين، لكن شق الطريق بتلك المواصفات والتصميم لا يهدد الإنسان فحسب بل يهدد الطريق ذاتها بالانهيار والاندثار». ويضيف:«هناك جسر ارضي في موضع اسمه (بلاسة) حفر له السيل وأصبح تحته خاوياً. خلال أمطار الشتاء الماضي انهارت صخور وقطعت الطريق لعدة أيام، وحاصرت سيارتين في وسط الطريق. وفي (كبة حاشد) جسر آخر بدون حماية وتحته هاوية تشكل مصيدة لانزلاق السيارات. منذ افتتاح الطريق عام 2005م وقعت عدة حوادث نتج عنها ضحايا. لم تترك مداخل نحو القرى الجبلية مثل الرجومة، النوبة، عقمة، مع هذا فإن الناس حينما يتذكرون متاعب ومآسي طريق هيجة العبد السابقة وما خلقته من متاعب وكوارث يرون في هذه الطريق التي شقت في نفس المكان حلماً تحقق. ولكن يجب على المجلس المحلي إيجاد الإمكانيات لرفع الأضرار وإزالة الأخطار المهددة للطريق والإنسان».

أما عبد الرحمن الاكحلي رئيس لجنة التخطيط بالمجلس المحلي فروى لنا عن إحدى هذه الانهيارات الصخرية «في العام الماضي تسبب هطول الأمطار في انهيار الصخور من جبل الجاية على قرية (جبران) الجبلية في أسفله، مما تسبب بجرف مدرجات زراعية ومساكن.استمرار خطر الانهيارات وتهديده للسكان اضطرنا إلى إجلاء 28 أسرة من سكان القرية إلى مكان آمن في رأس الجبل. الهلال الأحمر في تعز قدم مواد إغاثة وخيم إيواء لفترة قصيرة ثم توقف، حتى اليوم ما زالت مشكلة المتضررين قائمة».

نفق خدمات وسياحة

ثلاثة جبال مقعرة يسند بعضها بعضاً. جبل (الليمة) الشاهق يتوسط جبلي القلعة والجاهلي ويحول دون العبور من أحدهما إلى الآخر، ما جعل التناثر السكاني أسفل الجاهلي يعانون من مشقة الانتقال وإيصال متطلباتهم، لكن الضرورة أجبرتهم على ابتداع طريقة عجيبة لتوصيل المواد الغذائية. روى لنا أحد المرافقين حكاية اختراع وسيلة عجيبة لإيصال المواد الغذائية لأسرهم لاسيما القمح، السكر، الدقيق بمشقة أقل . فقد أتوا بأنبوب (ماسورة) ونصبوه فوق قمة الجاهلي ليمتد إلى أسفله، وحينما يريد أحدهم توصيل مؤنة أسرته التي يجلبها من التربة يذهب بها إلى قمة الجبل ثم يصبها في الأنبوب لتتلقفها أسرته عند أسفل الجبل. بعد شق نفق جبل الليمة ربط القلعة بالجاهلي فخفف بعض معاناة السكان وسهل انتقالهم. حدثونا عن مشهد عجيب للنفق يجذب الزائرين المحليين لكن وعورة الطريق لا تتيح لأنواع السيارات عبوره عدا سيارات التيوتا، وهو ما قلل توافد الزائرين .

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى