«الأيام» تطوف بديار قلعة المقاطرة وزريقة الشام:لوحات طبيعية معلقة تحاصرها وعورة المكان وأسوار العزلة والحرمان

> «الأيام» علي الجبولي:

>
طريق معير يتلوى نحو قمة الجبل
طريق معير يتلوى نحو قمة الجبل
توحد جغرافي تشتت إداري ..بعد نحو ساعتين من بدء الرحلة وجدنا أنفسنا نسترجع أنفاسنا في مدينة التربة كأن لولباً زنبركياً قذف بنا إلى فوق قمة قلعة المقاطرة... حينما تستوي بك السيارة فوق القلعة، يفر البصر بعيدا نحو مدينة التربة والقرى الجبلية المتناثرة في محيطاتها فلا يكاد يرجع.

إنها مدينة التربة عاصمة مديرية الشمايتين بمحافظة تعز، نقطة ترانزيت يصعب على المسافر من شرق أو جنوب شرق مديرية المقاطرة إلى شمالها الغربي دون العبور بها. تبدو التربة للناظرين كأنها فوق ما يشبه الهضبة،فوق تلك الهضبة تتداخل قرى مديرية المقاطرة في محافظة لحج مع قرى مديرية الشمايتين بمحافظة تعز. تتناثر قرى الربيصة، الحصاحص، شرجب، الأصابح، بني غازي، القريشة، الحضارم، ذبحان، الزكيرة. تتقارب ، تتجاور إلى حد التوحد، غير أن ما يثير الغرابة أن ذلك التداخل والتوحد في النطاق الجغرافي الموحد لم يشفع لها أن تتوحد في نطاق إداري واحد عند استحداث مديرية المقاطرة عام 98م. إذ إن تلك القرى تتوزع بين نطاقي محافظتي تعز ولحج ، فتعد القرى الواقعة يسار طريق الإسفلت ضمن نطاق محافظة لحج، بينما القرى على يمينه في محافظة تعز. دون أن تفهم الحكمة من هذا التقسيم الإداري المفتقر لأبسط المعايير الجغرافية أو الاجتماعية أو الاقتصادية.

حدثنا كثير من زملاء الرحلة عمن أنجبته هذه القرى المتواضعة من رجالات وطنية احتلت مكانة الريادة في مراحل النضال الوطني وما زال لها حضور في شتى مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والأدبية والاجتماعية والتجارية.

جولة على حواف قمة القلعة لتفقد المناطق المقطرية

كانت الشمس ضحى تطارد بقايا غيوم تضطجع تحتنا على أحضان وصدور الجبال الشاهقة وقمم المرتفعات. ثمة سحب متفرقة تتسابق تحتنا يبدو أنها غادرت البحر العربي للتو كي تسابق تحتنا. أطللنا على تتناثر سكاني منفرط العقد ينتثر أسفل أقدامنا على امتداد فج سحيق في أفخاذ وأحضان الجبال والمرتفعات. تناثر سكاني مرهون بقاؤه بتدحرج صخرة معلقة على القمم المطلة عليه ليصبح أثراً بعد عين. مشهد يشبه أفعى عجوز تتسلق جذع نخلة يتسلق طريق (مصير) نقيلاً أصم يجري رصفه بالحجارة من أسفل الجبل نحو قمته، لربط قرى الشعوب ، المصعد، مصير بمدينة التربة. قال طارق عبد الله محمد الأمين العام للمجلس المحلي بلهجة لا تخلو من مفاخرة بإنجازات حزبه:«هذا طريق نقيل مصير موله صندوق التنمية الاجتماعية بـ 28 مليون ريال مضاف إليها %5 إسهامات المجتمع».

في بلدة الحصاحص (الأكاحلة العليا) في المحيط الشمالي الشرقي لمدينة التربة زرنا مدرسة الشهداء للتعليم الأساسي بقرية دكة، بنيت المدرسة عام 82م .تعددت الروايات عن اسم أكبر من المسمى، لكن هناك رواية وهي الأرجح أنها سميت تخليداً لرجال من أبناء المنطقة قتلوا إبان حملة الإمام يحيى لقمع انتفاضة المقاطرة عام 1922م . تتكون المدرسة من ثلاث شعب دراسية وغرفة معلمين, طاقمها 20 معلماً ومعلمة أغلبهم معلمات. يقول الأستاذ عبد الرحمن علي الأكحلي، رئيس لجنة التخطيط بمحلي المقاطرة، أحد معلمي المدرسة:«تكوين المدرسة إلى الصف التاسع، بها 320 تلميذاً وتلميذة منهم 156 تلميذة من مناطق استجلاب متناثرة. الشعب لا تتسع للتلاميذ لذا اضطرت إدارة المدرسة إلي تحويل غرفة المعلمين إلى صف دراسي والاستعانة بأحد ملاحق مسجد قديم كصف دراسي، ومقصورته غرفة معلمات». مشهد مؤلم لتلاميذ ومعلمات وتراب السقف يتناثر فوق رؤوسهم.

ملحق ومقصورة مسجد

لم يخف المعلمون والمعلمات تذمرهم من الحال المزري ونقص المبنى المدرسي وافتقاره للخدمات وأبسطها حمام. ثمة أساسات تحفر في فناء المدرسة. أضاف عبد الرحمن: «مشروع بناء ثلاثة صفوف إضافية للمدرسة مول بناءها المجلس المحلي بتكلفة 13 مليون ريال من مشروعه الاستثماري».

المركز يعاني صعوبات والمدير ضاعت حقوقه

يعد المركز الصحي في بلدة الحصاحص المنشأة الصحية الأولى في مديرية المقاطرة التي تحظى بالإعجاب، قد يكون لقربه من مدينة التربة أو لتوفر الكادر الصحي وبالذات النسائي، وربما لتعدد خدماته سبب لهذا التميز بصورة مغايرة لأوضاع الخدمات الصحية في المديرية، غير أنه لا يخلو من صعوبات جمة. محمد علي فارع مدير المركز الصحي حدثنا عما يقدمه المركز من خدمات، والصعوبات التي تواجهه:«بني المركز عام 74م على نفقة المواطنين، وأعيد ترميمه وتأهيله عام 2000م بدعم منظمة (ديا). يتكون المركز من عدد من الحجرات ، يعمل فيه طبيب و 15 موظفاً منهم طبيب و 11 موظفة، ما بين فنيين في المختبر ، مرشدات، قابلات، ومساعدين طبيين. بحكم موقعه الجغرافي يقدم خدماته لما يزيد عن 7000 نسمة من قرى مديريتي المقاطرة والشمايتين. مجال خدماته في الأمراض السارية، الرعاية الأولية، الصحة الإنجابية، التحصين، الأشعة، الفحوصات المخبرية، يتوفر فيه تلفاز وفيديو للتثقيف والتوعية الإنجابية والتوعية بمخاطر الأمراض المنقولة جنسياً ومنها الإيدز. أهم ما ينقص المركز ، غرفة توليد، غرفة كشافة، غرفة صيدلية وفني صيدلة، غرفة مجارحة، وغرفة تنظيم الأسرة ورعاية الأم الحامل، غرفة مختبرات. وهو في أمس الحاجة إلى مخزن لحفظ المعدات والأدوات الطبية وإلى سور وسكن للموظفين». لم يقتصر الحرمان على افتقار المركز الصحي لأهم أوليات تقديم خدماته الطبية، بل طال الحرمان مدير المركز ذاته، حينما حرم من علاوة طبيعة العمل التي صرفت هذا الشهر لزملائه في المركز وكل نظرائه مديري المراكز الصحية في المقاطرة عدا مدير هذا المركز، بينما الفنيتان في المختبر، نجلاء محمد- بكالوريوس بيولوجي- ، وخولة أحمد -دبلوم مختبرات- ما زالتا تعملان متطوعتين على أمل توظيفهما.

التربة مليحة ( زنتها ) جيفة

التربة نجع جبلي تأهلت من كيان قرية إلى تنميط مدينة ريفية محتفظة بجمال الريف وزاد فن العمارة إليها حسناً إضافياً، في حين أضفت عليها الخدمات العصرية وخدمات الماء، الكهرباء، الاتصالات، رقة ونعومة. جولة سريعة في مدينة التربة للتمتع بمشاهد يمتزج فيها وعورة التضاريس بروعة المكان، يتداخل فيها القديم بالحديث. مبان حديثة متنوعة الطرز وأخرى قديمة مرصعة بلمسات الفن المعماري القديم.

جامع قديم ينتصب في قلب المدينة انه جامع الطيار الأثري الذي بني منذ مئات السنين وصار اليوم مهجوراً ، قيل لنا بأن فلجاً (ساقية) كان يمتد من أحد جبال شمال المدينة لتموين المسجد بالماء لكنه ردم اليوم وبنيت عليه العمارات .

فوق تبة صغيرة ببلدة (بني غازي) في المحيط الشمالي من المدينة ينتصب مبنى كلية التربية والعلوم والآداب التي أنشئت منذ سبع سنين وبجوارها معهد للتدريب المهني.وعلى موقع ليس ببعيد ينتصب معلم آخر من معالم المدينة هو مستشفى الخليفة بتربة ذبحان ولادة الشاعر والصحفي الراحل عبد الله عبد الوهاب نعمان (الفضول).

طريق معير يتلوى نحو قمة الجبل
طريق معير يتلوى نحو قمة الجبل
أما في محيطها الغربي حيث تمتد شرجب، الربيصة فيلفت انتباه الزائر علم حديث من معلم التربة، مشهد سور يلتف حول بستان خلاب يزدان بالأشجار المحلية والمستوردة ويتوسطه قصر أحد موسري المدينة.

مدينة حباها موقعها وتضاريسها إضافة إلى تشكل قراها وتنوع عمارتها وخصوبة أرضها جمالا لا يقل عن جمال مصيف في جبال الشوف اللبنانية. لكن وآه من لكن، كأنها مليحة ينفر عاشقوها من نتن ثوبها ، شوارع ضيقة وحسن بلا نظافة.

ما يوحي بأن عصابة مافيا نتنة تبتلع خيراتها وتحرمها من ابسط ما يقيم أودها من التخطيط والتنظيم والنظافة.

من شاف حسين الناس عاف خيبته

غادرنا المدينة، غرباً شجيرات وحشائش ضامرة وأشجار عالية لعل أكثرها السقم ، العسق ، الطلح ، القرض ، السدر ،السمر، يشكل مجموعها لباساً نباتياً يبدو كحلة شفافة تكاد تستر جسد الطبيعة. أسلاك كهرباء تعرش فوق بلدات وقرى التربة كخيوط عنكبوت بدار مهجور وهي تسافر فوق رؤوسنا من التربة نحو بلداتها الغربية ،القريشة، الأصابح الحضارم، الزكيرة. حينما كنت أراجع مسودة هذا الاستطلاع في قريتنا (3 كم جنوب مدينة طور الباحة) على ضوء مصباح يدوي (ليت) استعدت مشاهد أسلاك الكهرباء فوق رؤوس قرى التربة، التي قيل لنا إن الكهرباء تكاد لا تنقطع على مدار الساعة فتحسرت على وضع طور الباحة التي لا تعرف الكهرباء سوى المدينة وثلاث قرى في تماسها لخمس ساعات ليلا فقط، تنطفئ خلالها مرات ومرات وبل وبعض الليالي لا يشع لها نور مطلقا. على خط تماس بلدة القريشة ثمة مشهد في محيط قرية الحضارم يلفت الأنظار قيل لنا إنه مشروع ألماني حديث يسمى مجمع التمديدات الصحية لتصريف المخلفات الصلبة. حدثنا أحد المرشدين عن منزلة الحضارم بلاد السادة آل السقاف التي يسكنها أهل الريادة الأشراف ، الذين اشتهروا قديما بمنزلتهم الدينية والعلمية وشغفهم بالعلوم التي خصصوا الدور ومقصورات المساجد لتعليمها، ومنهم من صار اليوم يحتل مكانة مرموقة في العلوم الحديثة بكل تخصصاتها.

من هنا مر (نشوان والراعية)

قبل أن نبرح الحضارم أشار دليل إلى أكمة عليها دور فاخرة قال هذه (صيرة ). تل لا يرقي إلى مهابة وأهمية قلعة صيرة عدن ، لكن ربما افتتاناً أو تيمناً بـ (قلعة صيرة) التاريخية ،خاصة وأن كثيراً من أبناء التربة والحجرية عموما عشقوا عدن منذ القدم حتى الهيام .قال آخر:«هذه القرية أنجبت الشاعر عبد الله سلام ناجي».

نطت إلى ذهني حكايته الشعبية الشعرية (نشوان والراعية) التي يبدو انه صاغ لوحة أحداثها من هذه البيئة القاسية المثقلة بترسخ الخرافة في الذهنية الشعبية وتخلف الوعي الاجتماعي في حقبة ماضية. ليدين نهب ثنائي السلطة الاجتماعية والروحية حقوقاً باستغلال تخلفهم وتزييف وعيهم ، تذكرت اختفاء (الراعية) وحزن محبها (نشوان) وهلع أهلها وهم يبحثون عنها، وما أضافه الشيخ والفقيه لهلعهم من جبروت وسطوة الجن الذين شلوا الراعية.

من دكة الديوان .. في قمة السمرة .. هز الفقي رأسه .. وطير السكرة .. بعد ما غمز له الشيخ يكمل الهدرة قال الفقي وارجع .. الجن شلوها .. واللي يشه ترجع ..الدية تفديها .. وقصته تفجع .. أخاف لأحكيها .

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى