بكائية للسوماني محمد محمد سعيد القدال ..لماذا ارتحلت قبيل الصباح؟

> «الأيام» متابعات:

> رحيلك ببساطة يعني انتفاء سبب آخر لي في أن أبقى على قيد الحياة !.. رحيلك ترحل بعض أحلى سني عمري عبثاً إلى المجهول أتدري يا (أبا ناظم) ؟

في مفتتح الغربة بملتقى النيلين عرفت والدك العظيم الشيخ القدال سعيد القدال باشا. كنت حينما أصافحه و هو على (عنقريب) المرض أخشى أن أشد عليه بكفي و هو الذي ناهز السبعين يومئذ. كانت ذاكرته كأجمل ما يكون و كان فرحاً بتعيين والدي أستاذاً للغة العربية بكلية آداب جامعة الخرطوم . و لعل الحلقات الإذاعية الثلاث بإذاعة امدرمان و التي كتبها والدك عن والدي وتكرمت بنشرها على الناس في كتابك (سيرة معلم سوداني في حضرموت) ما يشهد على ما كان بينهما من ود متبادل. و يوم توفي والدك حضرت إليك في منزلك بالديوم الشرقية بمعية والدي و عرفت يومئذ كيف نعزي بعضنا بعضاً في السودان الأحب... (البركة فيكم) ثم رفع الأيدي لقراءة الفاتحة. و ذات يوم عندما كنت أحاضر في جامعة لندن عن الأواصر السومانية أذكر أن الضابط السياسي البريطاني السابق بحضرموت جون شيبمان قال لي : (لقد ذكرت الشيخ القدال و لكن هل عرفته شخصياً) . أجبت (نعم). قال: (إذن لا بد أنه كان حينها كبيراً جداً و كنت أنت حينها صغيراً جداً) ! و صدق الخواجة.

ثم فيك و لعقود عرفت الإنسان السوداني الأريحي, تعرفت على شقيقك طبيب النفس الذي ذكره والدك في قصيدته حنيناً من حضرموت للسودان. عرفت صهرك المكافح الطيب إبراهيم الذي عاش في حضرموت وأحبها, كما عرفت والدتك التي يجب أن يحفظ لها التاريخ السوماني أنها كانت المبادرة بتعليم النسوة الحضارم في المكلا أبجديات القراءة و الكتابة وكأنها تحمل الرسالة الموازية لوالدك و لخالك – أي شقيقها– عوض عثمان مكي الذي نشهد له بدوره في إرهاصات المسرح المدرسي بحضرموت. أما زوجتك الفاضلة فابنة الراحل أحمد صالح باعبود الذي كان ناظراً للطلبة الحضارمة الذين يفدون للسودان للدراسة.. فبالله من أعزي و من لا أعزي و المفطورون قلوبهم على رحيلك كثر.

فلنترك مؤقتاً كتبك القيمة حتى لا يضيع عني المعنى الذي أريد أن أؤكده و هو أنك اختزلت في كريم أخلاقك أريحية السودانيين جميعاً. كيف أنسى و أنا طالب في الثانوية حينما عرفتني بمطرب السودان لا بل إفريقيا الأول محمد وردي في مكتبتك في السوق العربي وكانت صلة تفتقت عن صلات بيني و بينه. كيف أنسى و أنا طالب طب في داخلية (السجم) أنني إذا رمت فكاكاً من الفول و العدس إلى (الملاح) و(الشية) على مائدتك كانت صينية أم ناظم أول ما يتداعى إلى مخيلتي و معدتي معاً. و يوم طلب مني و من زملائي أن يحضروا أسرهم إلى زيارة معرض طلاب الطب بالكلية و لم يكن لي أهل هناك فأرسلت معي ناظم و نازك و قلت: (سوقهم معاك ما ديل أهلك) .

عشت كبيراً يشهد العدو قبل الصديق بوطنيتك و بزهدك في حياتنا الفانية. حتى سياط كوبر المعنوية وغير المعنوية لم تتمكن من أن تحطمك دعك عن أن تهزمك كما قال أرنست همنجواي.

ظللت ترعاني على مدى سني دراستي الطبية الجافة و كنت حينما لا أجاريك في لعب الكوتشينة تترك لي مكتبتك أغترف منها ما طاب من تواريخ السودان. و يوم صدر كتابي (جسر الوجدان بين اليمن و السودان) دعوتك فيه إلى انتهاز وجودك في كلية التربية بالمكلا و عدن منذ 1993م لتكتب سيرة والدك فكان كتابك (سيرة معلم سوداني في حضرموت) إجابة وافية عن ذاك الطلب , و أجدك في حاشيتين تنقل عن كتابي (السوماني) , أنت المؤرخ المحترف تنقل عني عاشق التاريخ ! و هل التواضع إلا من مكارم الأخلاق. و تمر السنون و تكر فأجدك توصي مركز الدراسات الاستشراقية بجامعة برجن بالنرويج بأن تستضيفني محاضراً زائراً, فنسافر معاً و نتعرف على عشاق السودان و اليمن معا من الباحثين النرويجيين : ركس أوفاهي – لايف مانجر – آن بانج الخ و لا أنسى الباحث المبدع أحمد إبراهيم أبو شوك الذي أصبح الآن في بلاد الملايو علماً أكاديمياً بعدما حقق سيرة الشيخ أحمد محمد سوركتي في بتافيا التي أصبحت الآن جاكرتا. و هكذا يجد الباحثون في الشتات الحضرمي في المحيط الهندي و على رأسهم الألمانية أوليرك فرايتاج أنهم بحاجة للاستنارة برأيك الحاذق الثاقب, و هكذا مولت النرويج بحث الدكتورة سامية الهادي النقر عن هجرة الحضارمة إلى شرق السودان و هي دراسة ميدانية بديعة وقفت عليها. و في سنين قليلة أصبحت , يا أبا ناظم, همزة وصل في الدراسات العليا بين جامعتي الخرطوم و عدن و جاءنا دكتور يوسف فضل حسن ممتحناً خارجياً.

مثلك يحيا في كتبه:

انظر معي تفردك بدراسة الشيخ مصطفى الأمين كنموذج الرأسمالية الوطنية بالاشتراك مع د.عاطف صيغرون . انظر معي كتابك السهل الممتنع في المنهجية التاريخية المذيل بلوحة عن مصادر دراسة التاريخ اليمني بالاشتراك مع د. صالح باصرة. و انظر معي كتابك (الاغتراب و الانتماء) الذي انبريت فيه لمعالجة قضايا شائكة في تاريخ السودان الحديث و لم تغفل استعراض مدارس كتابة التأريخ السوداني اغتراباً و انتماءً. و لولا ترجمتك لكتيب (القات) للراحل التجاني الماحي لما عرف اليمنيون أن هذا العلم السوداني سبقهم إلى تأريخ القات في بلادهم و هو ما سبق أن ذكرته في (جسر الوجدان) , و ترجمتك لـ (تاريخ الطريقة الختمية) أنارت الطريق للباحثين عن تاريخ الزاوية الصوفية الختمية في الحديدة و تهامة.

فيا عاشق المكلا زملاء دراستك قبل الجامعية في حضرموت كثر -1940 1958م

و يا رمز مدينة (سومانيا) الفاضلة محبوك على ضفتي بحر (القلزم) كثر

و أكثر من هذا وذاك حسرتي بعدك.

د. نزار محمد عبده غانم

صاحب الطريقة السومانية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى