(الحضارم رواد الهجرة عبر عدن إلى الهند)

> فاروق لقمان:

> بعد مشاهدة حلقات الهجرة الحضرمية الوثائقي على شاشة «العربية» عدت إلى مذكراتي عن العلاقات التاريخية بين الهند واليمن وعمان والخليج عموماً - وخصوصاً اليمن لأن الخليج كان امتداداً لليمن أشهر دولة في شبه الجزيرة العربية منذ ثلاثة إلى أربعة ألف سنة. واستعنت بأكثر من مصدر وبالطبع مشاهداتي الشخصية في جنوب الهند ولاية ملبار - كيرالا حالياً - وحيدر عباد حيث كان لليمنيين من الحضارم والعوالق ويافع نفوذ كبير حتى استقلال الهند عن الاستعمار البريطاني. كما استفدت كثيراً من محاضرة ألقاها صديقي العزيز الدكتور عبدالله مدني في البحرين وأستأذنته في الاقتباس منها.

وفيما يلي الجزء الأول من المقال وسيتلوه إن شاء الله الجزء الثاني عن بعض الأسر الحضرمية التي استوطنت المنطقة ومنها آل الجفري وبافقيه وبارامي في كيرالا.

ولا بد لأي دارس لتاريخ ولاية كيرالا الحالية - ملبار بالذات - من الاطلاع على مجلدي الأستاذ البريطاني وليام لوجان الذي ألفه في القرن التاسع عشر وظل مرجعاً مهماً لكل ما يتعلق بالمنطقة منذ ذلك اليوم. فقد كان الرجل مسؤولاً عن منطقة ملبار التي خضعت للاستعمار البريطاني وفي الوقت ذاته باحثاً دؤوباً سجل أدق تفاصيل الحياة هناك من أنواع الصخور إلى أصناف الطيور. ولم يترك شاردة أو واردة إلا وضمنها سجلاته الرائعة التي تحولت إلى أهم مرجع بالإنكليزية عن كيرالا بحيث لم يكن بالإمكان تجاهله أو الاستغناء عنه لكل من تصدى للكتابة عن تاريخ ملبار وانتشار الإسلام الحنيف في تلك الربوع إذ إنه أفرد فصولاً عن المعتقدات التي كانت شائعة هناك الهندوكية والبوذية والجينية - فرع من الهندوكية - ثم الديانات السماوية اليهودية والمسيحية والإسلام..وكان عرب اليمن سيما جنوبها وبالذات حضارمها قد تواصلوا مع الهند منذ آلاف السنين للتجارة والاستيطان ولنقل المنتجات الهندية إلى العالم بأسلوب تجارة الترانزيت عن طريق عدن وموانئ أخرى في سلطنة عمان.

الكاتب الخليجي العربي المحلل والمتخصص في الشؤون الهندية وآسيا عموماً الدكتور عبدالله المدني تحدث ذات يوم عن العلاقات الهندية-العربية في محاضرة كنت أحد الذين استمعوا إليها في مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث في المحرق في مملكة البحرين، وهو أحد الصروح الثقافية البارزة في المنطقة.

يقول الدكتور عبدالله المدني: «إذا ما أردنا أن نغوص في موضوع المحاضرة فإن البداية يجب أن تكون عبر إلقاء ضوء سريع وموجز على تاريخ نشوء العلاقات الهندية-الخليجية وتطورها منذ العصور الغابرة. هذه العلاقات، طبقاً للحفريات والدراسات الأركيولوجية التي أجريت في بعض مناطق الهند والساحل العربي من الخليج، تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد حينما نشأت روابط تجارية ما بين حضارة وادي الاندوس وحضارة الرافدين القديمتين. فبسبب موقع الخليج الجغرافي المتوسط ما بين هاتين الحضارتين، وبسبب الازدهار النسبي لبعض مناطق الخليج وقتذاك لجهة توفر المواد الغذائية والماء العذب كما كان حال مملكة دلمون ومملكة ماجان في عمان، فقد اتخذت هذه المناطق الخليجية كمحطات ترانزيت للتزود بالماء والطعام وللراحة من قبل السفن التجارية المتنقلة ما بين بلاد الهند وبلاد الرافدين.

«وقبل مجيء الإسلام وبحسب ما هو موثق في الشعر الجاهلي الذي يعتبر أحد المصادر الهامة لتاريخ أحداث وأوضاع مجتمعات شبه الجزيرة العربية القديمة، عرف أبناء الجزيرة العربية الهند، وأعجبوا ببضائعها من حرير وبخور وطيب وأحجار كريمة ومعادن وتوابل، وأشادوا بحكمة أهلها ومعارفهم. وبلغ إعجابهم بالهند أن أطلقوا على بناتهم اسم «هند» وأطلقوا على اسم سيوفهم «المهند» نسبة إلى الهند. ومن نساء العرب هند الهندات أم الملك عمرو بن المنذر، وهند بنت ظالم زوجة حجر بن معاوية آكل المرار، وهند بنت الخس التي كان يضرب بها المثل في الفصاحة والبلاغة والحكمة وكانت تلقب باسم «هند الزرقاء»، وهند بنت سهيل أم الصحابي معاذ بن جبل، وغيرهن. بل إن هناك من رجال العرب من تسمى بهند، وأشهرهم هند بن أبي هالة بن نباش الأسيري وأمه السيدة خديجة بنت خويلد وقد رباه الرسول بعد أن تزوج بأمه. وقبل الفتح الإسلامي لبلاد الهند والسند بسنوات طويلة، كان هناك من أبناء الحجاز من عبر الصحاري والقفار والبحار ووصل إلى الهند. وتروي بعض المصادر التاريخية أن الخليفة عمر بن الخطاب التقى أحد هؤلاء وطلب منه أن يخبره عن الهند فكان رده: “بحرها در، وجبلها ياقوت، وشجرها عطر». وهذا الوصف يتناقض مع ما قاله حكيم بن جبلة العبدي للخليفة عثمان بن عفان عن الهند وهو: «ماؤها وشل، وثمرها دفل، ولصها بطل. إن قل الجيش فيها ضاعوا وإن كثروا جاعوا».

لكن هذا التناقض لا يجب أن يولد جدلاً، لأن هذه هي الهند منذ الأزل، بلاد شاسعة متنوعة التضاريس والمظاهر والأعراق، كثيرة العجائب، ومليئة بالمتناقضات.

«ومن أشهر الكتب التي ترجمت إلى العربية في ذلك العصر كتاب «بانج تانترا» الذي نقله من نسخته الفارسية عبدالله بن المقفع وسماه «كليلة ودمنة»، وكتاب «سوريا سد هانت» في علم الفلك الذي ترجمه الفرازي وسماه «سندهند». والفرازي هذا قام أيضاً بترجمة كتب هندية أخرى في الرياضيات من أصلها السنسيكريتي، فتمكن العرب من استعارة نظرية الصفر والأرقام الهندية السنسيكريتية المعروفة اليوم بالأرقام العربية.

«وحدثت في هذه الفترة تحركات ديموغرافية ما بين الخليج وشبه القارة الهندية، وفي الاتجاهين، كان من تجلياتها الواضحة نزوح أقوام من الهند باتجاه الخليج أولاً ومن ثم باتجاه مناطق أخرى مثل البصرة وبلاد الشام، واشتغالهم فيها كجنود مقاتلين أو كحراس على ظهور السفن الملاحية الخليجية أو كخدم للتجار ومالكي المراكب. ومن أبرز هذه الأقوام من يسمون في التاريخ العربي بالزط ويسمون في الأدبيات التاريخية الهندية بالجات.

«وفي مقابل الهجرات الهندية الأولى إلى سواحل الخليج المستمرة إلى اليوم نجد أن هناك هجرات عربية قديمة من الخليج وشبه الجزيرة العربية صوب السواحل الهندية لأسباب مختلفة مثل القحط والهرب من الاضطرابات السياسية والبحث عن الأمان، أو من أجل التجارة والكشف الجغرافي والتدوين التاريخي.

«وخلافاً لما هو شائع من أن جيوش محمد بن القاسم أو الدولة الأموية هي التي نشرت الإسلام في الهند من بعد فتحها في عام 711 للميلاد، فإن الإسلام دخل تلك البلاد قبل ذلك التاريخ بزمن، على يد المهاجرين والتجار من أبناء عمان واليمن، وانتشر بطريقة حضارية قوامها الإقناع والترغيب والقدوة الحسنة، وليس السيف والخيل والتدمير مثلما حدث لاحقاً، فكانت النتيجة أن تولدت أحقاد توارثتها الأجيال، نجد تجلياتها اليوم في عداء بعض الهندوس للإسلام والمسلمين «ويؤكد العديد من المؤرخين الهنود في كيرالا وخارجها أن العلاقات التجارية العربية الهندية بدأت قبل الميلاد بأكثر من ألف عام ومن هؤلاء الأستاذ أحمد كبير المحاضر في التاريخ الإسلامي وك. ام. بانيكار وسيد أمير علي ومحمد كونهي وآخرون كتبوا عن ظهور الإسلام وانتشاره هناك بعد ذلك بواسطة عرب جنوب شبه الجزيرة العربية.

الحضارمة في مدينة يارنق أباد في الهند
الحضارمة في مدينة يارنق أباد في الهند
ذكر بانيكار أن هناك دلائل تاريخية كما قال الدكتور المدني بأن السفن التجارية كانت تبحر من موانئ البحر الأحمر - عدن خصوصاً لأنها كانت محطة ترانزيت - والخليج العربي بصورة منتظمة من قبل القرن العاشر قبل الميلاد لتحمل التوابل الهندية مثل الفلفل الأسود والقرنفل والهيل لأن كيرالا آنذاك كانت تشكل المصدر الرئيسي لها بالإضافة إلى خشب الساج الفاخر أو التيك بالإنكليزية حتى قيل أن قصر نبي الله سليمان كان يحتوي على كميات كبيرة من خشب الساج والعاج الهندي. وقد ذكرت ذات يوم أن كلمات قرفه وهيل وقرنفل أصلها هندية جنوبية.

ويجمع المؤرخون أن عرب جنوب شبه الجزيرة العربية، خصوصاً اليمنيين عبر ميناء عدن، كانوا الأكثر نشاطاً في التجارة بين المنطقتين كما يؤكد ذلك الأستاذ الإسكندر كوندراتوف في كتابه «ألغاز المحيطات الثلاثة».

ويستطرد المؤلف إلى القول بأنه لا يشك أبداً في أن لليمنيين الفضل الأكبر في الترويج للمنتجات الهندية الكيرالاتية بالذات منذ الألفية الأولى قبل الميلاد لأنهم كانوا أول الواصلين إلى موانئ كيرالا التي كانوا يسمونها ملبار لذلك كانوا أول من سوق منتجاتها النادرة آنذاك من توابل وأقمشة وخشب الصندل والتمر الهندي والأنعام لأنهم سبقوا حتى الاسكندر الأكبر في دخول الهند كما قال المؤرخ سيد أمير علي في كتابه «روح الإسلام»، أيضاً بواسطة تجارة الترانزيت في الموانئ اليمنية الواقعة على بحر العرب ومنها عدن. ولعلهم كانوا أول من استعان بالرياح الموسمية إذ إنهم كانوا يبحرون من جنوب الجزيرة العربية خلال شهري يوليو وأغسطس عندما كانت الرياح تهب شرقاً ثم يعودون إلى بلادهم خلال شهري ديسمبر ويناير عندما كانت تهب غرباً.

وخلال الفترة الواقعة بين الموسمين كانوا يقيمون في ملبار حيث تزوجوا وأنجبوا وأسسوا العديد من الأسر منذ الألفية التي سبقت الميلاد حتى نهاية الاستعمار البريطاني في الهند. (للحديث صلة).

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى