خطورة استعمال اللهجات العامية على اللغة العربية الفصحى

> امذيب صالح أحمد:

> الانحراف اللغوي و الماهية الخسيسة للهجات العامية:إن تطور وسائل الإعلام والثقافة وتنوعها المكتوبة والمسموعة والمرئية قد أثر تأثيرا عظيما على وعي الناس وثقافتهم في جميع مناحي الحياة. وهذا التاثير الكبير لوسائل الإعلام والثقافة قد يكون إرشادا للعقول وتصحيحا للفهوم في بعض الأوقات، وقد يكون تضليلا للعقول وتحريفا للفهوم في أوقات أخرى.

واللغة العربية التي هي الحاضنة والقاعدة لمنظومة القيم التي تكون هوية الأمة في العروبة والإسلام تتعرض للتأثيرات الإعلامية والثقافية سلبا وإيجابا حسب مقاصد السياسات الإعلامية والثقافية السليمة منها والمشبوهة. وبما أن وسائل الإعلام والثقافة تستخدم اللغة العربية كأداة رئيسة في معظم أعمالها فإن هذه اللغة التي تُستخدَم تتأرجح بين صفاء اللغة الفصحى البسيطة وبين لوثة اللهجات العامية المتداولة حسب ثقافة المستخدمين وأدواتهم، وكأن اللغة العربية الفصحى ليست لغة العزة والحياة والثقافة والعلم والحضارة، فتسمع رطانة اللهجات العامية في أفواه المتشدقين بها ليلا ونهارا، في كل مكان يستوي في ذلك المتعلم والأمي، بينما الفصحى العربية لاتسمع إلا قليلا وفي مجالات محدودة.وقبل الخوض في مشكلة انتشار اللهجات العامية ومخاطرها لابد من التعرف على ماهيتها وتعريفها. ولم أجد أحسن من وصف شيخ الأدب العربي الدكتور شوقي ضيف في كتاب له عنها بعنوان: (تحريفات العامية للفصحى في القواعد والبنيات والحروف والحركات) أي أنها لهجة منحرفة غير سوية، والكتاب عبارة عن دراسة تطبيقية على تحريفات العامية المصرية للفصحى، وجميع التحريفات التى درسها توجد في جميع اللهجات العامية في الأقطار العربية بحذافيرها، غير أنها قد تختلف قليلا في بعض أنواع التحريف للفصحى، ولما كانت اللهجة العامية المصرية النموذج الأكثر فهما وتقبلا لدى الناطقين بالضاد، فسوف نستعرض مدى تحريفاتها للفصحى كما لخصها شيخ الأدب العربي د.شوقي ضيف:

(ا) إهمال الإعراب: تهمل اللهجة العامية الإعراب (وهو تغيير الحركات في أواخر الأسماء والأفعال المعربة) وهو من أهم خصائص الفصحى. ومما لايختلف فيها اثنان أن الإعراب كان ولايزال جزءا لايتجزأ من النطق بالعربية سواء في القرآن العظيم أو الحديث النبوي أو في الشعر أو في كلام البلغاء والخطباء، وهو جوهر راسخ فيها لم يزايلها إلى اليوم. وكما نعلم فإن تشجيع اللهجات العامية في البلاد العربية من قبل الدوائر الصليبية المعادية للإسلام أصبح أمرا مخططا ضمن سياستهم، لأن الإعراب كما يقول الدكتور فاضل صالح السامرائي في كتابه(الجملة العربية والمعنى): «هو مزية للقرآن الكريم». فالإعراب سمة من سمات العربية وميزة من مزاياها، وله فوائد وأغراض حرمت منها اللغات الأجنبية. إن من أهم أغراض الإعراب (أ) التعبير عن المعاني المختلفة (ب)السعة في التعبير(ج)الدقة في المعنى، ولذلك فإن تشجيع اللهجات العامية في أقطار الوطن العربي هدفها أساسا محاربة الإسلام أولا من خلال محاصرة القرآن وتراثنا العظيم باللهجات العامية حتى لاتفهمه الأجيال الحالية والقادمة على المدى الطويل، وضرب التواصل اللغوي والوحدوي بين العرب الذين ستتباعد بهم لهجاتهم العامية حين تصل إلى صور وأشكال غير عربية.فاللهجات العامية تقوم تدريجيا بتغيير نطق الكلمات وتحطيم قواعد الفصحى ونحوها وقتل الملكة اللغوية وتعطيل جهاز النطق حتى تصل إلى مرحلة من الرطانة قابلة للافتراس اللغوي الأفرنجي من اللغات السائدة.

(ب)التحريف في الأفعال والمشتقات:1- التحريف في صيغة الفعل الماضي الثلاثي الناقص اليائي،وإعلال الماضي المضعف، وزيادة ياء مع تاء المخاطبة المتصلة بالماضي، وإسكات التاء في صيغ معينة.

2-التحريف في صيغ المضارع بكسر أحرف المضارعة، وإدخال الياء على المضارع لتأكيد حدوثه، وإدخال الحاء على المضارع للدلالة على الاستقبال، وإدخال (ما) على المضارع حثا عليه، وحذف نون الرفع مع المضارع المقترن بواو الجماعة وياء المخاطبة.

3-التحريف في صيغ مشتركة بين الأفعال فلا تلحق ألف التثنية ونون النسوة بالأفعال، وإلحاق علامة الجمع بالماضي والمضارع مع ذكر الفاعل، وقلب(واو) الفعل الناقص(ياء)، وإلحاق الشين بالماضي والمضارع المنفيين، استخدام صيغة انفعل في الماضي والمضارع في البناء للمجهول.

4-تسهيل الهمزة في الأفعال وحذفها.

5-التحريف في المشتقات كاسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة واسم الآلة.

(ج )التحريف في صيغ الأسماء المتنوعة والقصر والمد:1 -التحريف في المفرد وبعض صيغه.

2-التحريف في المثنى والجمع وأنواعه.3-التحريف في التذكير والتأنيث، وفي الأسماء الخمسة.4-التحريف في بعض الأسماء المبنية.5-تسهيل الهمزة في الأسماء وحذفها.6-القصر بحذف الألف في صيغ كثيرة ومد الحركات.

(د)التحريف في الضمائر وحروف المعاني وأبواب من النحو والصرف:1-التحريف في الضمائر المتصلة البارزة والضمائر المرفوعة والمنصوبة.2-التحريف في حروف المعاني.3-التحريف في بعض أبواب النحو والصرف.4-قلب الحروف في الكلمة.

(هـ)التحريف في بنيات الكلم:1-التحريف في هيئة الكلمات.2-نحت الكلم.

(و) إبدال الحروف والحركات:1- إبدال الحروف: تبدل العامية في كثير من كلمات الفصحى بعض حروفها وخاصة الأحرف الأولى كما يلي:

(الهمزة)تبدل في العامية عينا وهاء وواوا.(الباء)تبدل في العامية فاء وميما.(التاء)تبدل في العامية طاء وكافا.(الثاء)تبدل في العامية تاء ودالا وسينا وشينا وطاء.(الجيم)تبدل في العامية همزة وهاء.(الحاء)تبدل في العامية عينا.(الخاء)تبدل في العامية حاء وغينا(الدال)تبدل في العامية تاء وزايا.(الذال)تبدل في العامية ذالا وزايا وظاء.(الراء)تبدل في العامية لاما ونونا.(الزاي)تبدل في العامية سينا.(السين)تبدل في العامية زايا وشينا وصادا وظاء.(الشين)تبدل في العامية سينا وصادا.(الصاد)تبدل في العامية زايا وسينا.(الضاد)تبدل في العامية دالا وظاء.(الطاء)تبدل في العامية تاء.(الظاء)تبدل في العامية دالا وضادا.(العين)تبدل في العامية همزة وحاء وهاء.(الغين)تبدل في العامية عينا.(الفاء)تبدل في العامية باء وطاء وواوا.(القاف)تبدل في العامية همزة وجيما.(الكاف)تبدل في العامية همزة ونونا.(اللام)تبدل في العامية راء ونونا.(الميم)تبدل في العامية باء ونونا.(النون)تبدل في العامية راء ولاما وهاء.(الهاء)تبدل في العامية همزة وباء وحاء.(الواو)تبدل في العامية ياء.(الياء)تبدل في العامية نونا.(الألف الممدودة)تبدل في العامية عينا.

2-إبدال الحركات: تبدل العامية حركات الكلم في الفصحى وخاصة الحرف الأول منها على النحو التالي:أ-فتح الأول والعامية تكسره.ب-فتح الأول والعامية تضمه.ج-ضم الأول والعامية تفتحه.د-ضم الأول والعامية تكسره.ه-كسر الأول والعامية تفتحه.و-كسر الأول والعامية تضمه.وبعد هذا التشويه الشامل للأبجدية الفصحى نطقا وسماعا ماذا تبقى لها من سلامة حروفها، فإذا ترك الحبل على الغارب للهجات العامية في تحريفاتها للفصحى في القواعد و البنيات و الحروف و الحركات فماذا سيكون حالها ومصيرها في هذا الانفلات اللغوي. إن اللغة الفصحى محكومة بنظم وقوانين في نطقها ومبانيها وتعبيراتها وقواعدها، أما اللهجات العامية المنحرفة فلاتحتكم إلى قوانين وقواعد وأعراف دائما وإنما تحكمها الفوضى الخلاقة في طمس الهوية الأصيلة وصناعة الهوية المزدوجة.

مساوئ استخدام العامية وآثارها السلبية على العروبة والإسلام:

للهجات العامية سلبيات كبرى ومساوئ عظمى عند استخدامها كأداة تعبيرية قولا أو كتابة على اللسان والعقل والأخلاق والثقافة والعلم والدين والهوية. وسوف نحاول إيجاز أهمها فيما يلي:

(1) تعطيل وظائف جهاز النطق:

إن فصاحة اللغة العربية كما يرى الأستاذ العقاد تنبع من اللفظ الفصيح الذي هو اللفظ الصريح الذي لا لبس فيه ولا اختلاط في أدواته، فلالبس بين مخارج الحروف ولا إهمال لمخرج منها ولاحاجة فيه إلى تكرار النطق من مخرج واحد. وجميع المخارج الصوتية مستعملة ومتميزة بأصواتها ولو لم يكن بينها غير فرق يسير في حركة الأجهزة الصوتية. فالفصاحة هي امتناع اللبس وهذه هي الخاصية النطقية التي تحققت في اللغة العربية لمخارج الأصوات، كما تحققت للحروف ولايلزم أن يكون لكل حرف مخرج مستقل في جهاز النطق الذي يشترك فيه الحلق والحنك واللسان واللثة والشفتان ،بل كل مايلزم فيها أن يكون جوهر الحرف سليما في مجراه من الجهاز الصوتي وفي موقعه من السمع لحسن استخدام ذلك الجهاز وحسن التمييز فيه بين الأصوات المتشابهة أو المتقاربة.

ولما كانت اللهجات العامية تقوم بتحريف الحروف والحركات وتغييرها فإن ذلك يؤدي إلى تغييرمخارج الحروف وحركاتها في جهاز النطق وتغيير أصواتها ونبراتها ومواقعها من السمع وهو مايعني أن الوظائف الصوتية للحلق والحنك واللسان واللثة والشفتان في اللهجة العامية قد تختلف عن وظائفها في اللغة الفصيحة من حيث المخارج والأصوات والأسماع بالنسبة لذات الكلمة المنطوقة. وعندما تستخدم اللهجة العامية جهاز النطق مدة طويلة أكثر مما تستخدمه اللغة الفصيحة فإنها تحتكر جهاز النطق بالتعود فيصبح عبدا للهجة العامية، وسوف يشق عليه أن ينطق بماتقتضيه الفصحى من المخارج والأصوات والحركات, فحروف اللغة العربية تختلف صفاتها الصوتية وتتباين فيما بينها عند النطق كالجهر والهمس والرخاوة والشدة والصفير وغيرها. فبعضها يجري النفس عند النطق بها.وبعضها ينحبس جري النفس عند النطق بها لقوة الاعتماد على مخارجها. وبعضها ينحبس جري الصوت عند النطق بها لكمال الاعتماد على المخرج.وبعضها يجري الصوت عند النطق بها لضعف الاعتماد على المخرج.وبعضها يرتفع اللسان عند النطق بها إلى الحنك الأعلى.وبعضها يحط اللسان بها عند النطق بها من الحنك إلى قاع الحلق.وبعضها تلاصق مايحاذي اللسان من الحنك الأعلى عند النطق بها.وبعضها ينفتح مابين اللسان ويخرج النفس مما بينهما عند النطق بها.وبعضها يعتمد إلى طرفي اللسان والشفتين عند النطق بها.وبما أن اللهجة العامية تغير الحروف جميعها في ألفاظ اللغة الفصيحة عند النطق بها بالعامية التي تعودت ذاكرة متحدثها وناطقها على استحضار مفرداتها أكثر من استحضار مفردات الفصحى نتيجة استدامة السماع والحديث بها، فإن جهاز النطق يتعطل عن الفصاحة بالتكرار الدائم الذي هو في الواقع تعليم وتدريب على النطق بالعامية ناهيك عن تحريف بناء الجمل والعبارات او تحطيم قواعد اللغة البسيطة. الأمر الذي يؤدي في مجمله إلى إضعاف وتدمير السليقة اللغوية للفصحى بعد أن سلقت لسانه العامية.

(2) انتشار العامية مزاحمة للفصحى وإضعاف لها:

يتعلم الإنسان اللغة بوسائل عديدة غير أن أهمها في التأثير على تكوين الفصاحة في لسانه هو السماع والمحاكاة الصوتية. فنطق الحروف والكلمات والعبارات بحركاتها المختلفة التي تقتضيها معاني اللغة العربية لايمكن تجويدها على لسان الطفل إلا بالسماع والمحاكاة الصوتية. فإذا كانت كل اللغات تحتاج لهذه الطريقة في تعلمها مع أن معظمها ذات كلمات صامتة شأنها شان اللهجات العامية فإن اللغة العربية الفصحى التي هي لغة حركية في حروفها وكلماتها وعباراتها هي أكثر حاجة لهذه الطريقة. ولما كانت اللهجة العامية تطرق أسماع الناس صغارهم وكبارهم في البيت والمدرسة والشارع والعمل فماذا نتوقع غير سيطرتها على الألسن.إن اللغة الأم (الفصحى) تكتسب في المرحلة الاولى من حياة الانسان. فالطفل حينما يتربى في حضن والديه على سماع لهجة عامية فانه يقلد مايسمعه بين أهله وفي محيطه الاجتماعي. وحينما يلتحق بمرحلة التعليم الأساسي فإن معظم ما يسمعه في بيته ومدرسته ومحيطه الاجتماعي هو باللهجة العامية. فإذا كان في بيته فإن والديه وإهله يتواصلون معه بلهجة عامية، وإذا شاهد أو سمع برامج أطفال وغيرها فإنها تكون في معظمها باللهجات العامية وإذا خرج إلى الشارع مع رفاقه فإنه يسمع اللهجة العامية طوال الوقت إلى حد الابتذال. وإذا كان في المدرسة فإنه معظم الوقت يتلقى دروسه في إطار العامية إلى حد كبير.وأما مقررات اللغة العربية الفصحى فإنها تعلم للصغار بـ(الطريقة الكلية) المدسوسة على فصاحة اللغة العربية التي تحول حروفها وكلماتها المتحركة إلى حروف وكلمات صامتة ضمن مخطط التآمر الاستشراقي الغربي.

إذا كان الإنسان يكتسب السليقة اللغوية للفصاحة بالسماع والتكرار والمحاكاة فإن الطفل الذي يتربى سمعه على أصوات اللهجة العامية التي تطرق أذنيه ليلا ونهارا وفي كل مكان يصعب عليه اكتساب السليقة اللغوية للفصحى مادامت العامية تزاحم الفصحى مزاحمة غير متعادلة بكل وسائل التعلم والتعليم والتلقي والتلقين، بحيث أصبحت الآذان والأسماع مصبا للملوثات الصوتية من اللهجة العامية.

ومن أبرز الآثار السيئة ژأن جامعة عريقة كجامعة القاهرة قد أصبحت أطروحات الدكتوراه في اللغة العربية تناقش باللهجة العامية ناهيك عن الميادين الأخرى.

وإذا كان من خصائص اللغة العربية الفصيحة أنها لغة موسيقية لأنها لغة للأذن والسماع قبل أن تكون للعين والكتابة، فإن العاميات تقتل موسيقاها وتخدش الأسماع، يقول الدكتور سامي الألفي في كتابه عن اللغة العربية: «ويذهب العالم والبحاثة د. إبراهيم أنيس في معرض حديثه عن نواحي الجمال في اللغة العربية إلى القول بأن العرب القدماء قد عنوا بموسيقى الكلام، لأنهم لم يكونوا أهل كتابة وقراءة، بل أهل سماع وإنشاد. والموسيقى لازمة لمن يصغي فيحسن الإصغاء، أو ينشد فيحسن الإنشاد ويستحوذ على الأسماع. فهي إذن لغة أذن وليست لغة عين. ولغة الأذن تخاطب دائما الجوانب الموسيقية في النفس وتعتمد على الجرس, جرس الكلمة واللفظ وجرس الجملة أو العبارة وهو ذاته ما أكده عميد الأدب العربي د. طه حسين، حيث أوضح أن «أدبنا العربي لايهمل السماع إهمالا قليلا أو كثيرا وإنما يعنى به أشد العناية ، فهو أدب منطوق مسموع قبل أن يكون أدبا مكتوبا مقروءا، وهو من أجل ذلك حريص على أن يلذ اللسان حين ينطق به، ويلذ الأذن حين تسمع له، ثم يلذ بعد ذلك النفوس والأفئدة حين تصغي إليه. وليس أدل على ذلك من أن العرب في جميع عصورهم لم يعنوا بشئ قط قدر عنايتهم بفصاحة اللفظ وجزالته ورقة الأسلوب ورصانته، وقد جعلوا الإعراب واصطفاء اللفظ والملاءمة بين الكلمة والكلمة في الجرس، الذي ييسر على اللسان نطقه، ويزين في الأذن وقعه أساسا لكل هذه الخصال».

(3) تعويق الترجمة وتسلل مفردات اللغات الأجنبية:

إن انتشار اللهجات العامية وطغيانها على اللغة الفصيحة في الحياة الخاصة والعامة للناس على كل المستويات قد أدى إلى إضعاف للغة العربية الفصحى في عقول وألسنة أبنائها، مما أوجد بيئة لغوية مستضعفة تتسلل إليها مفردات اللغات الأجنبية السائدة، وتشيع على ألسنة أبناء العربية الذين افترستهم اللهجات العامية فافسحت الطريق أمام المصطلحات الأجنبية البلهاء. فالعامية لغة خسيسة منحرفة لاتستطيع أن تكون ندا للغات الأجنبية في غياب لغة شريفة قويمة كالفصحى، بل إن الأمر امتد إلى أن يرغب أبناء العربية من ضحايا عامية العقل واللسان إلى الميل تحت مختلف المؤثرات نحو تعلم اللغات الأجنبية وإجادتها بدرجات متفاوتة. ووصل الأمر في بعض الأحيان إلى أن ينتشر تعلم اللغات الأجنبية في السنين الأولى من حياة الطفل المدرسية التي يجب تربويا على الأقل أن تكون خالصة لغرس السليقة اللغوية العربية الفصيحة في لسانه وتقوية ملكتها في عقله ووجدانه.إن انتشار اللهجات العامية على حساب اللغة الفصيحة قد بدأ يظهر في النصف الثاني من القرن العشرين المسيحي بعد أن ظهرت آثار منهج تعليم اللغة العربية بطريقة لاتينية الذي وضعه المستشرقون الصليبيون في الدول العربية قبل ذلك بزمن قليل. كما أن بروز قيادات عسكرية بعد تحرر الدول العربية من الاحتلال الأجنبي، وهي تخاطب الشعوب كثيرا بارتجال اللهجات العامية كان له تأثير كبير على إضعاف اللغة العربية، خاصة إذا عرفنا أن القيادات المدنية السابقة لهم التي تربت على الثقافة العربية الإسلامية كانت تخطب بالفصحى، لغة القرآن والسنة في كل المناسبات الرسمية والشعبية. وهذا الوضع العام للفصحى أضعف قدرة وكفاءة المتعلمين في ترجمة العلوم الطبيعية خاصة والترجمة بصفة عامة ولذلك وجدت المؤسسات العلمية الجامعية في الدول العربية صعوبة في وضع خطة للتعريب تعليم العلوم الطبيعية بالإضافة إلى عوائق يفتعلها التغريبيون وأعداء العربية في الحكم والإدارة من المتخاذلين.

إن الترجمة بصفة عامة لايمكن أن يقوم بها إلا مثقف متمكن من اللغة العربية الفصحى ومتمكن في نفس الوقت من اللغة الأجنبية التي يترجم منها. ومعظم الترجمات القليلة الجيدة التي تمت هي في حقول العلوم الإنسانية وخاصة في مجال الفنون الأدبية التي جاءتنا من الغرب بتشجيع من الحركة الاستشراقية في بداية القرن العشرين المسيحي. وبما أننا في العصر الحديث بحاجة إلى أحدث العلوم المادية والفكرية وليس إلى حداثة في مجالات سبق العرب والمسلمون غيرهم فيها. وإذا ظللنا فريسة لمخطط إضعاف الفصحى الشريفة بالعاميات الخسيسة فسنبقى في أخس مستوى حضاري في العصر الحاضر. لقد كان العرب قبل الإسلام بلغات ولهجات مختلفة فتطورت بعد ذلك في لغة واحدة هي لغة القرآن الكريم. كما حدث لجميع اللغات الحية التي تطورت في لغة واحدة من عدة لغات ولهجات مختلفة ،غير أن العرب يراد لهم التمزق والانحطاط من قبل أعدائهم بالعودة لغويا إلى ما قبل الإسلام من العجمة والشتات في اللسان.

(4) إطفاء لغة القرآن وطمس شريعة الإسلام:

يقال إن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة. فاللهجات العامية حينما تحتل مساحة كبيرة من التعبير والتواصل والسماع في كافة مناحي الحياة الاجتماعية فإنها تدريجيا تكون عامل طرد للغة الفصيحة من مجال التعبير والتواصل والسماع. ولن يقتصر الأمر على اللسان والسماع واستمرار الحال في التلوث اللغوي السماعي، بل سيتعداه إلى مجال الكتابة والقراءة كما هو الحال في بعض الإعلانات والشاشات وحينئذ سيبتعد الانسان في المجتمع العربي عن تراث الامة العقدي والديني والفكري والعلمي والأدبي والشعري وفي مقدمتها القرآن والسنة والعلوم الشرعية الاخرى، وهذا هو بيت القصيد كما يقولون.

إن طغيان العاميات سيؤدي حتما إلى الابتعاد عن اللغة الفصحى التي تصلنا بتاريخنا وبتراثنا وبإسلامنا وعقائدنا وهويتنا العربية الإسلامية، كما سيؤدي الى تعلقنا بلغات أجنبية أخرى لأن العاميات كائنات مارقة منحرفة ليس لها هدف أو قرار، فهي خارجة على القانون. إن اللهجات العامية طفيليات تعيش على الفصحى ويوم تموت الفصحى فلن يبقى لها أثر.

إن العربي لايستطيع الاعتماد على لهجة عامية في الاطلاع على القرآن الكريم والسنة النبوية والعلوم الشرعية الأخرى أو علوم اللغة العربية أو المعارف التي جاءت بها الحضارة الإسلامية بالفصحى . وإذا استخدم لغة أجنبية أخرى فإن أهداف التآمر الغربي الصليبي قد تحققت في قتل الأصالة والهوية وإشاعة التغريب لكسر شوكة الإسلام والعروبة.

فسيطرة العاميات وطغيانها على اللغة العربية الفصحى سيؤدي ايضا إلى تنوع في اللهجات ونموها بطريقة سرطانية، لأنها غير محكومة بقوانين وقواعد وأعراف وتراث عريق. فالمزاجية الفردية والمناطقية العشوائية والأمراض الاجتماعية تصنع مفردات العامية كل يوم وخاصة في مبتذل الظروف .

إن هذه اللهجات العامية في البلاد العربية التي نسمعها اليوم بشكلها الحالي مرهونة ببقاء اللغة العربية الفصحى فهي السقف التي تستظل به ويمنع خروجها عن إطار مفردات اللغة العربية الفصحى. أما حين تختفي الفصحى كما يخطط لها الأعداء وينجرف وراءهم البعض عن قصد أو غير قصد فإن اللهجات العامية ستتغير وتتبدل كل يوم حتى تصبح بلاجذور موحدة أو متقاربة وحينئذ ستكون فريسة سهلة لهجمة شرسة من اللغات الاجنبية عليها بمفرداتها الغربية وتركيباتها المختلفة في كل قطر ومنطقة مابين الخليج والمحيط، فتتكرس بذلك التجزئة اللغوية والثقافية، ثم تتمزق الوشائج والروابط بين أبناء العروبة والإسلام فيتحقق أحد ألاهداف الكبرى للاستخراب الأوربي في الوطن العربي.

(5) الانعزالية والتجزئة القومية:

يدعو كثير من الانعزاليين والتغريبيين إلى أهمية إحياء التراث الشعبي كمكون أساسي من ثقافة الأمة وتراثها، وهذه من قضايا الحق التي يراد بها باطل. فكل تراث لايؤثر سلبا على هوية الامة وثقافتها لاغبار عليه. ولكن الحركة الاستشراقية الصليبية كانت تدعو رسميا للعامية والى إحياء الشعر العامي وإزجاله المختلفة كجزء من مخطط نشر العامية على حساب الفصحى. فشعر العامية هو وليد البيئة الانعزالية المتخلفة الجاهلة باللغة العربية, فالشاعر والمستمع يستويان في ذلك, وموضوعات هذا الشعر محلية مناطقية حتى ولو كانت فيها لمسات انسانية.

إن انتشار الشعر العامي في وسائل الإعلام والثقافة المكتوبة والمرئية والمسموعة وإقامة المهرجانات له ليس انتشارا بريئا من حركة الانعزالية التي يوسوس بها شيطان التمزيق والتفريق بين أبناء الأمة العربية، لأن استخدام الشعر العامي غرضه توسيع استخدام دائرة اللهجة العامية وتنمية و تقوية الانتماءات العصبية والاقليمية على المدى البعيد التي قد تؤدي إلى التفكيك والتنافر.إن انتشار اللهجات العامية وطغيانها على اللغة العربية سيترتب عليه تدريجيا انسحاب الفصحى وتواريها من شتى مناحي الحياة وانقطاع سبل الاتصال الصحيحة والحيويه بثقافتنا وعقائدنا وتراثنا وتاريخنا، أي أن اتصالنا بالعصر سيكون بانفصالنا عن ماضينا، ولن يكون ثمة شيء يوحد بين أبناء العروبة أو يقرب بينهم سوى الجوار الجغرافي، شأنهم شأن أقاليم القارات الأخرى. وعندئذ ستنشأ لغات جديدة إما بالاحتلال اللغوي للأجانب أو بالتهجين اللغوي حسب درجة افتراس اللغات الأجنبية الأخرى للعاميات المناطقية.

وحين تتمزق الوحدة اللغوية القائمة على الفصحى فإن التباعد والتنافر الاجتماعي سيتقوى في نفوس الكيانات الإقليمية حتى تصبح فاقدة لعروبتها المؤسسة على اللسان الفصيح، وهذا التباعد والتنافر أحيانا سيولد العزلة والانعزالية فتصبح المجتمعات المجزأة بكياناتها الأجنبية الهزيلة خاضعة وتابعة لأعدائها الاستكباريين بعد أن يتعزز التغريب الفكري والثقافي والاجتماعي على أنقاض حاملة العروبة والإسلام لغة القرآن المجيد.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى