العم (سعيد) أول محافظ لعدن بعد إعلان الوحدة ..بعض من الوفاء وحتى لاننسى

> علي صالح محمد:

> بالصدفة كنت أتصفح كتيب بعنوان (صفحات مشرقة من تاريخ المقاومة الوطنية في ردفان)، صدر بمناسبة الذكرى العشرين لثورة الرابع عشر من أكتوبر عن لجنة كتابة تاريخ الثورة في منطقة ردفان، وقدم له رئيس اللجنة حينها المناضل سعيد صالح سالم، عضو اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي، وأحد قادة جبهة ردفان للفترة 1963- 1967، وهو المجاهد الكبير الذي وافته المنية بحادث مروري مؤسف في طريق لحج - عدن في العاشر من مايو 1991، وشيع يومها في موكب جنائزي مهيب لم تألفه عدن، وكان يشغل آنذاك منصب أول محافظ لعدن في دولة الوحدة، وبذلك رحل وأحد من أهم وأبرز قيادات الثورة في الجنوب، وأحد ذئابها الحمر، كما كان يطلق عليهم أثناء الكفاح المسلح، عن عمر ناهز الخمسين، ليخسر الوطن أحد أهم رجالاته المخلصين الشجعان، وأحد الذين وحدوا اليمن بالنضال والدماء منذ أن قاد مع بعض رفاقه أكثر من 150 مقاتلا من أبطال ردفان للدفاع عن الجمهورية الوليدة في جبال المحابشة بحجة بداية عام 1963، لينتقل لاحقا معهم إلى ردفان ليكون أحد الذين فجروا الثورة المسلحة ضد الاحتلال الإنجليزي مع راجح بن غالب لبوزة، ويشترك في حرب التحرير وتحقيق الاستقلال الوطني في الجنوب كقائد من قيادات ردفان، وليعمل بصمت وبحماسة وبتواضع بعد الاستقلال الوطني لتحقيق مشاريع وأهداف البناء الوطني في أكثر من منصب، بدءا من مأمور مديرية ردفان مرورا بمناصب في القوات الشعبية واتحاد الفلاحين ومجلس الشعب الأعلى حتى وصوله إلى وزارة أمن الدولة كوزير إثر أحداث يناير المؤسفة حتى عام 1990 ليشغل منصب محافظ عدن، ليكون أول محافظ لعدن في ظل دولة الوحدة، وبذلك يكون قد شهد وعاش وحقق أحلاما ومشاريع كبيرة لطالما (اعتاد خوضها، ولم يخض يوما حربا صغيرة لا مجد لها) كما قال عنه جار الله عمر، فهو الذي حمل السلاح للدفاع عن ثورة 26 سبتمبر لقناعته بأن الدفاع عن الثورة في الشمال وانتصارها سيمكن من توفير الظروف الملائمة لهم كثوار لمحاربة الإنجليز في الجنوب (لأن الجيوش الإمامية- التي دخلت إلى الضالع في عام 1919 إثر الاتفاقية الموقعة بين الأتراك والإنجليز التي تقضي بانسحاب الإنجليز من الضالع إلى عدن- قد حجبت الأهداف الوطنية للحملة وتميزت بأعمال البطش والسلب والنهب للممتلكات وفرض الضرائب والأتاوات وأخذ الرهائن.. ولم يكسبوا غير الكراهية والحقد الشعبيين) الأمر الذي رسخ القناعة لدى الوطنيين بعدم قدرة النظام الإمامي على توفير الدعم اللازم لأي ثورة في الجنوب مما يستوجب إنهائه ودعم حركة 26 سبتمبر لتوفير هذا الدعم.

ولد في قرية الذنبة في عام 1942 في كنف أسرة فقيرة ومجاهدة، حيث كان والده أحد شهداء معركة جبل جحاف عام 1948، ثم استشهاد عمه الذي تكفل برعايته بعد استشهاد أبيه، لينمو في ظل واقع مليء بالمعاناة والحياة القاسية المتسمة بالعوز والفاقة والصبر والجلد وشظف العيش، ليتحمل المسؤلية في سن مبكرة، ويكتسب بذلك صفات قلما اكتسبها أقرانه.. لم يحصل على القدر الكافي من التعليم لاستحالة ذلك حينها، ولكن مدرسة المعاناة والنضال أكسبته مهارات عديدة، أهمها إجادة فنون القتال واستخدام السلاح، ومنحته قدرات وخصال عديدة جعلت منه علما مميزا يحظي بالثقة والمحبة والاحترام والتقدير.

يقول هـ . كوكيل الخبير البريطاني في وصفه لقبائل ردفان «وماذا عن رجل القبائل؟ أثبت نفسه مقاتلا قاسيا وصارما لايستسلم ويتحمل جروحا فاجعة، زاحفا إلى الموت بمحض إرادته من أن يبحث عن مساعدة من عدوه، حيث إن المنطقة مهيأة بطريقة تمكن بعضهم من إيقاف كتيبة».

كان أول حادث صدام مسلح مع السلطات البريطانية في ردفان عام 1881 أثناء محاولة إخضاع قبيلة القطيبي لإمارة الضالع.. وشهدت مواجهة عسكرية في عام 1903 حين أغار رجال ردفان على قافلة عسكرية بين عدن والحواشب، وهاجموا قافلة البريد المتجهة إلى الضالع ليشكل الإنجليز قوة تأديبية من فريق دبليين فيوز ياموس بقيادة الجنرال مينلاند، ومكونة من مائتي شرطي تابعين للكتيبة 123 هامشايرس مدعومة بفرقة من المدفعية ليشتبك رجال القبائل معهم في وادي (وحدة)، وفي هذه المواجهة سقط عدد من الجنود الإنجليز بين قتيل وجريح، وتم الاستيلاء على معدات وأسلحة، وسقط عدد من أبناء المنطقة، منهم الشهداء حيدرة سالم الغزالي ومسعود صالح الغزالي وأسعد سعيد السادي، وجرح ستة من الرجال، كما تم تدمير عدد من المنازل بواسطة الديناميت.

وفي عام 1939 قطعت الطريق وأطلق النار ليقتل مجموعة من الضباط والجنود الإنجليز، وكان على رأس المهاجمين عباد هيثم القطيبي، وإثر ذلك وجه الإنذار لأهالي ردفان وطولبوا بالطاعة، فقوبل الإنذار بالرفض، الأمر الذي دفع الإنجليز إلى قصف عدد من المناطق المجاورة للحبيلين و(بجير)و(المصراح) و(وحدة) بالطيران والمدفعية الثقيلة.

وفي 22 أكتوبر عام 1940 اتخذ ممثلو مختلف القبائل المجتمعين في وادي مسك قرارا يقضي بشن هجوم كبير على الجنود المتمركزين في المراكز المستحدثة في الحمراء وسليك، واستخدمت في الهجوم مختلف الأسلحة بما في ذلك السلاح الأبيض، وسقط العديد من الشهداء، منهم: (عبيد شعفل، غالب الحماطي، قاسم صالح حيدرة، صائل سلام، حسن محسن عيسائي، زيد المريخيم، مثنى طالب بكري، منصر سعيد مسعودي، شائف صلاح الصهفي، حسن محمد الصهفي، مقبل عبدالله الصهفي)، وإثر ذلك لجأ الإنجليز إلى أسلوب الحسم العسكري من خلال قصف المناطق بالطيران، ليفشل مجددا، وتتواصل عمليات المقاومة في أعوام 1956-1957 حيث أسقطت إحدى الطائرات في منطقة الثمير.

وفي الأشهر الأخيرة من عام 1962 وبداية عام 1963 توجه الآلاف من أبناء ردفان لتثبيت النظام الجمهوري (انطلاقا من أن تثبيت هذا النظام يعتبر الأساس لدعم أية حركة تحررية في الجنوب) ليسقط في معارك الدفاع عن النظام الجمهوري العديد من الشهداء، أبرزهم: (بحرين قاسم فريد، محمد نصر صالح، هيثم صائل سلام، عمر هيثم طالب، سالم عبده هيثم، حسين أحمد محمد)، كما جرح العديد من اؤلئك الرجال،

وكان فقيدنا الكبير العم سعيد أحد القيادات، واكتسب منذ الطفولة صفات نضالية عالية، وترعرع في ظل واقع المعاناة والمجابهة المستمرة مع المحتل ليتشبع بروح المقاومة والمشاعر المناهظة للظلم الذي كان يمثله الوجود الإنجليزي بسياساته القمعية في هذه المناطق المحرومة من كل وسائل المعيشة الطبيعية، والسعي بكل السبل للتحرر من هذا الوجود لتحقيق حياة إنسانية أفضل له ولأبناء شعبه في مختلف مناطق الجنوب.

وبانضمامه إلى التنظيم السياسي استطاع مثل غيره من مختلف جبهات القتال والنضال أن يخرج من دائرة المنطقة والقرية لتعانق أحلامه هموم الوطن كله، وتتأصل بذلك المعاني والصفات النضالية والأحلام الكبيرة في داخله، وتتعمق لتبلغ مداها أثناء سعية الدؤوب لتحقيق هذه الأحلام من خلال المواقع التي تحمل المسئولية فيها كقائد ميداني متواضع عشق الفعل قبل الكلمة، ومنحته الصفات الإنسانية التي اكتسبها واتصف بها حق القيادة، ليصبح مع الزمن من الصنف الذي تكبر به المناصب ولايكبر بها كما قيل عنه.

هذا الشهر يصادف مرور سبعة عشر عاما على ذهابه المؤسف، وفي كل عام أتمنى لو أن هذا الإنسان لم يزل حيا ليرى معنا أين أصبحت أحلامه وأحلامنا الكبيرة، وأين نحن من صفاته التي كان يقيس بها ويرى من خلالها العالم المحيط بـبراءة نـادرة.

ومن معرفتي المتواضعة بهذا الإنسان أشعر أن الله جل جلاله قد منحه الرحمة الأبدية في الوقت المناسب، وهو لم يزل في حدود بعض أحلامه التي سعى من أجلها لينام سعيدا كما سُمي، وقرير العين، ولم يشأ الله سبحانه وتعالى أن يريه شيئا مما نراه حتى لايكون مصدر أذى وعذاب لإنسان مثله، ومن موقع معرفتي المحدوده به أثناء تسنمه قيادة أمن الدولة في الجنوب قبل الوحدة في ظل ظروف غاية في الصعوبة عاشها الجنوب إثر أحداث يناير المؤسفة، وما نتج عنها من أوضاع مؤلمة ومزعجه للجميع، ومن بروز مهام معقده لإعادة ما دمر في الواقع والنفوس، وما حصدته الحرب اللعينة، وما احدثته في بناء الدولة وأجهزتها، أعتقد أن اختياره لهذا المنصب الحساس وفي مثل تلك الظروف كان فيه من الحكمة والرحمة والتوفيق الشيء الكثير، بسبب ما يتمتع به من صفات وخصائص إنسانية رفيعة هي رصيده القوي ومكمن قوته لتجعله محط الإجماع من قبل الجميع حد الاحتكام إليه عند الاختلاف كمرجع يحظى باحترام الكل لما يعنيه رأيه وموقفه من أهمية في إيجاد التوازن بين الأطراف (باعتباره رائدا في الصراحة والبساطة) حسب قول عمر الجاوي رحمه الله، ولمعرفة الجميع أن هذا الرجل الذي أطلق عليه (العم) سعيد توددا ومحبة، وكناية عن كونه أبا للجميع صادق وجاد ومتزن لايعرف المخاتلة والمجاملة، و لايتصف بالدهاء السياسي، لكنه يتميز بالنقاء السياسي والطهارة الإنسانية، يستمد بوصلته السياسية وحدسه في التعامل من خصاله الإنسانية كرجل شريف وحصيف، عاقل ونزيه، لايحمل حقدا ولايضمر شرا لأحد، بل كان يحمل حبا كبيرا للناس وعطفا شديدا على البسطاء والأطفال والشيوخ والنساء خصوصا، ونكران للذات بلغ حدا لايوصف، متواضع زاهد واثق من نفسه، حريص ووفي وأمين، تزين محياه ابتسامة مميزه تسبقه لمعانقة كل من يلتقيه، وروح دعابة مرحة، وتواضع وزهد شديدين، كان يحب العمل كثيرا والنهوض المبكر أكثر لتجده أول المداومين، ورع متسامح ودود، وإذا وعد وفى، يعشق الطبيعة الخضراء والجبال حد الافتتان، وصارم شديد البأس حين يتطلب الموقف ذلك، صعب المراس قبل أن يقتنع بالفكرة وحين يقتنع يكون أول الداعمين وأول المنفذين لها، كان يفرح كثيرا حين يرى أن الفكرة تحولت إلى شيء ملموس وفعل ملحوظ، كان يظهر امتعاضه وعدم ارتياحه من المتزلفين والفاسدين والانتهازيين والنزقين بصورة خاصة، كان يعشق السلاح بشكل لايوصف، فكانت أعظم الهدايا هي أنواع الأسلحة التي يتلقاها بشوق وبترحاب، لارتباطه بها منذ الطفولة، بعد أن ورث عن والده الشهيد البندقية الفرنسية التي بها دخل إلى عالم الرجال وهو في سن مبكرة، وكرجل ميداني أكثر من كونه رجل مكتبي كان يحب الإنجاز العملي، ولم يكن يميل كثيرا إلى الذين يكثرون من الحديث والأفكار النظرية، بما في ذلك التقارير المطولة وما تتضمنه من طلبات، فكان يتجاهلها عمدا.

طبعا هناك الكثير مما يمكن قوله عن هذا الإنسان المميز الذي أعتز كثيرا بأنني عملت تحت قيادته لأربع سنوات، كانت ولم تزل محل الاعتزاز والفخر والاحترام، وأشهد أن المعهد تأسس وازدهر كمؤسسة تعليمية عليا لأمن الدولة أثناء قيادته المتسمة بالاتزان والسماحة والنضج، وأثناء ذلك عرفت فيه أنسانا وقائدا لايمكن أن يمحى من الذاكرة أبدا، ومثلا نادرا قلما يوجد أو يتكرر في زمان أصبح الناس يئنون فيه مجددا من فساد الطباع وانهيار القيم والأخلاق، وازدهارالباطل والقهر والمعاناة، ليصبح الوفي عيابا والعايب وفيا.

وكما قلت لطالما تمنيت أن يكون هذا الإنسان حيا معنا ليرى ما صار إليه الحال وفقا لمعاييره التي التزم بها طيلة حياته، وأفنى وجوده من أجل انتصارها لتهزم أمام ناظرينا وفي عقر ديارنا، ولكن الله منحه الرحمة الأبدية فعلا يوم وافته المنية قبل سبعة عشر عاما ليعفيه من أذى القهر والحسرة والندامة.. الله رحمك وأحبك ياعم سعيد رحمة الأبرار لتنام قرير العين بسيطا كما عشت بسيطا، لأنك أحد (المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، منهم من استشهد ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا).

عدن 6-5-2008

المراجع:

- سعيد صالح سالم - فارس الثورة ورجل المهام الكبرى - صادر عن مؤسسة أكتوبر.

- صفحات مشرقة من تاريخ المقاومة الوطنية في ردفان.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى