الخبرة البريطانية والأوضاع الشرق أوسطية

> مصطفى الفقي :

> قضيت أسبوعين كاملين في نشاط ثقافي وسياسي متصل في مدينة لندن بدأته بمحاضرة في المتحف البريطاني ثم أُتيحت لي فرصة زيارة عدد من المراكز الكبرى للابحاث في العاصمة البريطانية وأهمها المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية ومركز الأبحاث التابع لوزارة الدفاع البريطانية، كما زرت مدينة أكسفورد ضمن وفد المجلس المصري للشؤون الخارجية وسعدت بيوم كامل في مركز دراسات الشرق الأوسط ومكتبته في كلية «سان أنتوني»، وكذلك شعرت بانبهار شديد عند زيارة مركز الدراسات الإسلامية في مدينة أكسفورد العريقة، إذ أن مبناه الجديد شيء يفوق الخيال ويستوعب أنشطة فكرية ودينية غير مسبوقة، ويترأس مجلس إدارته الأمير تشارلز أمير ويلز وولي عهد المملكة المتحدة. وشعرت خلال زيارتي للندن وأكسفورد معاً بنبض الحياة العربية والإسلامية بشكل واضح على رغم الحساسيات الموروثة والمشكلات الطارئة والأحداث السلبية من حين لآخر، بل إنني أدعي أن لندن بدت لي وكأنها «عاصمة شرق أوسطية» بحكم اهتمامها بشؤون إقليمنا وارتباطها بقضاياه ومتابعتها لأحداثه، ويهمني هنا أن أُشرك القارئ في عدد من الملاحظات المتعلقة بالدور البريطاني في السياسات الدولية والأوروبية والشرق أوسطية ونوجز ذلك في النقاط التالية:

1- إن الشرق الأوسط لا يزال يستحوذ على أولوية متقدمة في السياسة الخارجية البريطانية على مستوييها الديبلوماسي والبرلماني، كما أن بريطانيا تبدو الآن وكأنها تحاول ترشيد سياسات الإدارة الأميركية الحالية، وهي على وشك مغادرة البيت الأبيض مشيعة بقدر كبير من الانتقادات والملاحظات.

2- إن الفهم البريطاني للمسلمين والعرب يكاد يكون هو النص الأصلي للفكر الغربي في هذا السياق، فهم الذين يعرفون الدول الإسلامية والعربية أكثر من غيرهم، فلقد عاشوا فيها وتعايشوا معها وظلوا دائماً على اهتمام متواصل بالقضايا والمشكلات مع فهم متعمق للعُقد والحساسيات.

3- إن البريطانيين - رغم تحفظهم المعروف وتقليديتهم الاجتماعية - من أكثر الشعوب وضوحاً في التوصيف وصراحة في اتخاذ المواقف، ولقد لاحظتُ أنا وزملائي أن النمط المعروف عن الشخصية البريطانية لم يعد هو المسيطر، فالتأثيرات الأميركية المتزايدة والتفاعلات الأوروبية القوية جعلت الجزيرة المنعزلة جزءاً لا يتجزأ من تقاليد الغرب وأفكاره.

4- عندما كنا نتحدث في أحد مراكز الابحاث مع عدد من كبار الخبراء البريطانيين وجاء ذكر الملف النووي الإيراني فإذا بأحدهم يؤكد احتمال عملية عسكرية خاطفة ضد بعض المواقع النووية والإستراتيجية في الدولة الإيرانية، وعندما سألناه كيف تُقدم واشنطن على مثل هذا التصرف في الشهور الأخيرة من إدارة ذاهبة؟ ردّ بأن ذلك يكون تمهيداً ضرورياً لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة وتعزيزاً لكفة الجمهوريين فيها، ثم أضاف أن إسرائيل قد تنوب عن حليفتها الولايات المتحدة الأميركية في القيام بتلك المغامرة لأنها صاحبة المصلحة الأولى في عمل عسكري يحمي ظهرها ويؤمن حديقتها الخلفية.

5- تنظر لندن إلى ما يجري في العراق نظرة متفائلة يتحدث أصحابها عن تحسن الأوضاع الأمنية هناك وقرب انتهاء العمليات العسكرية الكبيرة وهذا الحديث المتفائل ليس انعكاساً لما يدور على أرض الواقع في بلاد الرافدين بقدر ما هو تعبير عن رغبة بريطانية في الخلاص من الورطة التي وضع جورج بوش وتوني بلير الغرب عموماً فيها، ولندن تدرك على الجانب الآخر أن العراق لن يدخل مرحلة الاستقرار الحقيقي قبل سنوات عدة قد يمتد أمدها إلى عقد كامل من الزمان.

6- إن النظرة البريطانية لما يجري في قطاع غزة تبدو أكثر فهماً من نظيرتها الأميركية، فهم ينظرون إلى ما يجري في القطاع بقدر من المسؤولية التاريخية والوعي بالمخاطر المحتملة على كل الأطراف نتيجة استمرار الوضع القائم، وهم يدينون السلطة العسكرية الإسرائيلية في الوقت الذي لا يفعل فيه الأميركيون ذلك إطلاقاً وهذا لا ينفي حالة الحذر التي يمارسها البريطانيون تجاه حركة «حماس» وما يمكن أن تقدمه للتسوية السلمية في ظل أطروحاتها الراهنة.

7- استحوذت المسألة اللبنانية على قدر من الاهتمام - وإن كان يقل إلى حد ما عن درجة الاهتمام الفرنسي كما عرفتها في باريس منذ أسابيع - كما أن المتحدث الرسمي باسم الخارجية البريطانية بارك اتفاق الدوحة وعبر عن تأييد بريطانيا لكل ما من شأنه أن يؤدي إلى اتفاق الفرقاء اللبنانيين واستقرار لبنان ذلك البلد المهم والمتميز في المشرق العربي.

8- إن الرؤية البريطانية للإرهاب الدولي تبدو أكثر موضوعية من النظرة الأميركية أيضاً ولا تخلو من توازن قد يؤدي إلى فض الاشتباك الوهمي والخلط المتعمد بين الإسلام والعنف، ولا شك أن وجود الجاليات المسلمة الكبيرة في بريطانيا - مثلما هو الأمر أيضاً في فرنسا - يساعد بالضرورة على فهم أعمق لروح الإسلام وتصرفات أتباعه، وهذا أمر لاحظته في العاصمتين البريطانية والفرنسية ولكنني افتقدته في العاصمة الأميركية.

9- لقد عبر وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط عن متابعة دقيقة للتفاصيل اليومية لأوضاع المنطقة العربية، كما ركز في حديثه على أهمية دور الدول المعتدلة في التهدئة وإبعاد شبح المواجهة بين الأطراف المختلفة في تلك المنطقة الملتهبة من عالم اليوم.

10- لقد بعثت الوساطة التركية بين سورية وإسرائيل روح الأمل المتجدد واحتمالات الوصول السريع إلى اتفاق حول الأساسيات وهو ما حدث بالفعل حيث صرح الجانبان بأنهما اتفقا على ما يقرب من ثمانين في المئة من المشكلات المعلقة بين الطرفين، وعززت سورية من موقفها بتكرار تمسكها الدائم بانسحاب إسرائيل الكامل من هضبة الجولان كشرط أساسي لتوقيع أي اتفاق للسلام بين البلدين، بل زادت على ذلك مزيداً من توثيق علاقتها الإستراتيجية بإيران.

هذه ملاحظات عشر أردنا بها أن نضع النقاط فوق الحروف ونقدم الرؤية الشاملة لتحسين الأوضاع وترشيد السياسات في هذه المنطقة الحساسة من العالم، ولقد لفت نظري تدفق الاستثمارات العربية على العاصمة البريطانية خصوصاً في مجال العقارات بشكل ملحوظ, كما لفت نظري أيضاً وجود عدد من الخبراء العرب البارزين في مواقع مختلفة داخل مراكز الابحاث, سواء في العاصمة لندن أو في كليات جامعة أكسفورد الشهيرة، ولقد استحوذت مشكلة دارفور على قدر لا بأس به من الاهتمام بحكم ارتباط بريطانيا بالمسألة السودانية منذ القرن التاسع عشر. ومع ذلك فإن ما توجهه لندن من لوم للأطراف المختلفة في المسألة السودانية لا ينبئ بفهم صحيح لمستقبل تلك القضية المعقدة. وستبقى لندن أكبر مركز اتصالات عالمي وأقوى بؤرة للمعلومات في عصرنا رغم تراجع الدور البريطاني سياسياً على الساحتين الأوروبية والدولية.

بقي أن أضيف أن مسؤولية التاريخ البريطاني عن معظم المشكلات الدولية في عالمنا المعاصر هي ميراث يصعب إنكاره وهو ما يقتضي التشاور مع تلك العاصمة العريقة في ما يتصل بتطورات تلك المشكلات ومستقبلها، ولعلي أسجل هنا بعض الأفكار الختامية حول الأوضاع الشرق أوسطية من حصيلة زيارتي اللندنية الأخيرة:

أ- إن الوضع المأزوم في غرب آسيا وشرق إفريقيا خصوصاً في العراق ولبنان وفلسطين والسودان والصومال فضلاً عن تداعيات الموقف المتصل بالملف النووي الإيراني والمحاولات التقليدية لعزل سورية بالإضافة إلى الحرب المشتعلة في أفغانستان وصحوة حركة «طالبان» من جديد، كل هذه الأمور وفي ظل الارتفاع الجنوني في أسعار النفط تنبئ باحتمالات متعددة لمواجهة محتملة بين الولايات المتحدة الأميركية وأطراف أخرى في الشرق الأوسط قد يكون من نتائجها انفجار الموقف برمته وذلك هو «السيناريو الأول» لاحتمالات المستقبل.

ب- قد يتشكل «السيناريو الثاني» لاحتمالات المستقبل بتحسن العلاقات بين طهران وواشنطن قبل رحيل الإدارة الحالية، وقد يحدث اختراق في ملف التسوية السلمية بين إسرائيل وسورية بما يؤدي إلى حالة استرخاء في المشرق العربي شريطة ألا يتم ذلك على حساب المسار الفلسطيني وهو ما تبدو احتمالاته في الأفق، بالإضافة إلى بعض التوقعات باسترخاء الوضع السياسي في لبنان.

ج- إن «السيناريو الثالث» يبتعد قليلاً عن احتمالات تدهور الوضع ويبتعد أيضا عن احتمالات تحسنه، ويراهن أصحاب ذلك «السيناريو» على استمرار الأوضاع المتأزمة بحيث لا تصل إلى مستوى الحرب الشاملة ولا تتجمد عند درجة معينة من التهدئة.

هذه سياحة عاجلة في العقل البريطاني من منظور شرق أوسطي أردنا بها أن نقول إن العالم - بفعل ثورة المعلومات والشبكة الراقية للاتصالات - أصبح وحدة واحدة تتبادل التأثير والتأثر بشكل ملحوظ، وأصبح من المتعين علينا نحن العرب أن نفتح حواسنا لكل ما يدور حولنا لأن الدنيا تجري أمامنا ولا مكان فيها للجامدين.

عن «الحياة» 3 يونيو

* كاتب مصري

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى