شيء من المنطق

> قاسم عفيف المحامي:

> المعلوم والمتعارف عليه عند سائر الدول والشعوب هو أن علاقة الدولة بالأرض إنما هي علاقة تمثيلية سياسية سيادية، تعرف عادة بالعقد الاجتماعي كطرف والطرف الآخر هو الشعب.

وهذه العلاقة لايترتب عليها أي شكل من أشكال تملك الأرض كحق خاص للدولة، كما أنها لاتعطي الحق للدولة بالتصرف بالأرض تحت أي مسمى إلا لأغراض المصلحة العامة وبالتعويض العادل، كما لايحق لها انتزاع أي حقوق للغير إلا بالقانون وبالتعويض العادل أيضا بشرط المصلحة العامة أو الضرورة العامة.

كذلك هي علاقة المواطن بالأرض، فهي علاقة حق الانتماء أصالة أو اكتسابا، يكتسب بموجبها المواطن حق الحياة والعيش عليها بكامل الحرية والأمان، ويمنح بموجبها حق الانتفاع بالأرض بصورة قانونية أو التمتع بها عن طريق الورث الشرعي، أو الاستفادة منها تحت أي شكل قانوني دون التملك، مع التحريم التام لأي شكل من أشكال الاعتداء على الأرض كالاستحواذ والسلب والنهب والغصب والبسط.. إلخ.

كل ما ذكر أعلاه يقودنا بالضرورة إلى الوقوف عند تعريف الأرض أو ماهيتها أو قيمتها الاعتبارية. فالأرض عند سائر الأنظمة ذات الحكم الرشيد أو التي تؤمن بالعدل والمساواة أو تحرص على حقوق المواطنين المتساوية أو تمتلك الرؤية الإنسانية المستقبلية فيما يخص حقوق الأجيال ثروة وطنية عامة مستمرة ومتجددة، لايحق لأحد الاستحواذ عليها أو تملكها، وإنما يحق الانتفاع بها بالصورة الشرعية والقانونية، وكونها ثروة وطنية عامة بما فوقها وما تحتها، فهي لاتخص الأحياء المنتمين إليها أصالة واكتسابا أكانوا في ظل دولة سيادية أم بدون، إنما تخص أيضا الأجيال المتعاقبة عليها الذين لم يولدوا عليها بعد، كحق ضمان إنساني استحقاقي عليها.

وبالمناسبة فدولة الكويت الشقيقة المثل والنموذج العالي من المسئولين والحكم الرشيد، فهي تودع في حساب خاص لايمس نسبة مئوية من إيراداتها السنوية لصالح تأمين حياة الأجيال الكويتية التي لم تخلق بعد على أرض الكويت! وهذا المثال يقودنا إلى القول إن النظام الاستعماري البريطاني لعدن والجنوب العربي والنظام الوطني بعد الاستقلال كانا أيضا نموذجين عاليي المستوى من الحكم الرشيد، فقد جعلا الأرض الجنوبية وما فوقها وما تحتها ملك عام لأبناء الجنوب، وباعتبارها ثروة وطنية عامة ومتجددة يكون الحق فيها للأجيال وللأجيال التي لم تولد بعد عليها، وبهذا يكون التجسيد العملي لمعاني العدل والمساواة والنظرة الإنسانية تجاه سائر الأجيال، وعلى الرغم من حجم مساحة الجنوب الشاسعة، فقد كان الانتفاع في الأرض عند النظامين أعلاه لايزيد على 25×25 سم2، ولايقل عن 4×12سم2، وهذا مجسد في التخطيط العمراني لعدن وغيرها من مناطق الجنوب.

وإجمالا، مما سبق الإشارة إليه، فإن أراضي الجنوب إنما هي أملاك شعبية عامة تخص أبناء الجنوب وحدهم دون سواهم، وهي حقوق ثابتة ومكتسبة ليس لها علاقة بالاندماج السياسي والسيادي للدولتين الشطريتين في الشمال والجنوب، علاوة على كونها حقوق ورث وميراث عميق الجذور، إضافة إلى أنها كانت أمانة لدى الدولة الشطرية الجنوبية حتما عشية الوحدة، وبالتالي فهي أمانة لدى دولة الوحدة، ثم هي كذلك مؤسسات القطاع العام الجنوبية، فهي أملاك عامة خاصة بالجنوبيين، كونها شيدت على أراضيهم العامة من دون تعويض، بل وساهموا في بنائها بصورة مباشرة وعبر التضحيات الجسام، وتعتبر من ميراثهم للأبناء، باعتبارها شيدت من رواتبهم بالنظر إلى معاناتهم وبالنظر إلى كونهم تنازلوا عن جزء من رواتبهم من أجل تأمين المستقبل، ومستقبل الأجيال على وجه الخصوص.

من هنا فإن الزعم الوحدوي، كما يقال (كلنا يمنيون وكلنا أصحاب حق في أراضي الجنوب باعتبارها أراضي دولة الوحدة) إنما هو زعم لايستقيم مع الحق والعدل والشرع، لأننا إذا افترضنا أن الجنوبيين كانوا مثل غيرهم وكانوا قد تملكوا أرض الجنوب كاملة قبل الوحدة وكانوا قد حصلوا على التعويض للأراضي التي شيدت عليها الآلاف من المؤسسات العامة والمرافق والمصانع، لما كانت الحاجة لهيئة أراضي وعقارات الدولة، وما كانت الأصوات التي تتحدث عن السلب والنهب والبسط.

ثم هي المفارقة في ظل ذلك الزعم عندما لايحصل صاحب الحق الأصيل على مساحة أرض ولو 10×10 سم2 انتفاعا، بينما غيره صاحب الزعم الاستحواذي يحصل على أرض مساحتها أكثر من ستة آلاف متر مربع تمليكا!.

وبالنظر إلى جملة ما حدث في الجنوب بعد 94/7/7، فإنه يتوجب على دولة الوحدة تدارك الأخطاء ووقف التعدي، وإعادة الأمور إلى نصابها، وصون وحماية الأمانة لأصحابها، وكل هذا يستدعي إعادة النظر في قانون ووظيفة هيئة أراضي وعقارات الدولة، بما يصون ويحمي الحقوق الثابتة والمكتسبة شرعا وقانونا، وبما يؤمن مستقبل الأجيال وحقهم في الحياة.

وهذا في الواقع هو الحق، أكثر مما هو شيء من المنطق.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى