اعتقوا بحارنا من التلوث

> د. عيدروس عبدالرحمن قطن :

> يعرف التلوث بصفة عامة بأنه أي تغيير يطرأ على المادة النقية، فإن المصطلح يدل على تغير الحالة الطبيعية العادية للبيئة، وأن تغير الحالة الطبيعية لما تمت لولا تدخلات الإنسان التعسفية، وبسبب هذه التدخلات أصبح إنسان هذا القرن في أزمة مع البيئة التي يعيش فيها.

وكما أشرنا عزيزي القارئ في مقالنا السابق (إلى متى العبث بالبيئة)، المنشور في العدد (5406) هناك عدة أسباب وعوامل أدت إلى اختلال التوازن في البيئة، وقد وعدناكم بأننا سوف نتناول هذه الأسباب في حلقات متفرقة.

وفي هذا المقال دعونا نتطرق إلى أحد هذه الأسباب وهي: (ظاهرة تلوث مياه البحار والمحيطات بالنفط)، وهذه الظاهرة حديثة لم يعرفها الإنسان إلا في النصف الثاني من القرن العشرين بعد أن انتشر استخراج النفط واستخدامه في كل مكان وأصبح المصدر الرئيسي للطاقة، أي أن مشكلة التلوث النفطي هو ناتج النشاط الحضاري والصناعي، وكذلك التطور التكنولوجي المضطرد في وسائل النقل، وكما هو معروف يعتبر النفط من أهم شرايين الحياة الرئيسية للنهضة الصناعية الحديثة. ينقل النفط من مصادر إنتاجه بكميات ضخمة عبر المحيطات والبحار إلى مناطق الاستهلاك ويمثل نقل النفط (60 %) من تجارة العالم عبر المحيطات.

وتبين الإحصائيات أن مياه البحار والمحيطات تتلوث كل يوم بملايين الأطنان من النفط، وأن الحوادث البحرية التي تقع لناقلات البترول لاتشترك في هذا التلوث إلا بنسبة لاتزيد عن (10 %) فقط، بينما ينبع الخطر الحقيقي من تلك الأحداث التي يتكرر حدوثها على مدار السنة، والتي تعد من أهم أسباب تلوث مياه البحار بالزيت النفطي مثل عمليات الاستكشاف أو أثناء استخراج النفط من الآبار البحرية،أو تسرب النفط من بعض خطوط الأنابيب التي تحمل النفط إلى شواطئ البحار، أو من الخزانات الساحلية أثناء شحن الناقلات.

وتعتبر النفايات والمخلفات البترولية التي تلقيها ناقلات البترول أثناء سيرها في البحار أحد الأسباب الرئيسية في تلوث مياه البحار والمحيطات بالنفط، ولاننسى ناقلات النفط الفارغة أثناء رحلتها إلى مياه الشحن أنها تملأ نحو (30 %) من حجم مستودعاتها بمياه البحار للحفاظ على توازنها أثناء رحلتها، ونظرا لأن الناقلة لاتستطيع أن تفرغ كل محتوياتها بنسبة (100 %) أثناء عملية التفريغ يتبقى دائما بمستودعاتها قدر صغير من النفط يصل عادة لنحو (1.5 %) من حمولتها الأصلية.

وعند ملء الناقلة بماء التوازن يختلط به النفط المتبقي بمستودعات الناقلة ويخرج من الماء عند إفراغ ماء التوازن إلى مياه البحر، ولايستهان بكمية النفط التي تتسرب إلى مياه البحر عن استخدام هذه الطريقة، حيث إن هناك مئات الناقلات التي تفعل ذلك، ناهيك عن الانفجارات التي تحصل في آبار النفط أحيانا، التي تسبب انتشار كميات هائلة من النفط فوق سطح البحر، وأيضا يجب ذكر حوادث وتصادمات بعض الناقلات في البحار، وما هو حجم الأطنان من النفط التي يتم تسربها إلى مياه البحار؟

وهناك أمثلة عدة حصلت في بلادنا من هذه الحوادث مثل:

-1 حادث الناقلة ليمبورج في ميناء الضبة في حضرموت عام 2002، وقد تسرب 17000 طن من النفط إلى مياه البحر.

-2 انفجار انبوب الشحن في رأس عيسى عام 2004، وتسرب 1800 برميل من النفط.

-3 تسرب نفط من خزانات سفينتي شحن في عام 1999 في ميناء عدن، وقد تسرب 11000 طن من النفط.

وأكيد أن هناك حوادث كثيرة تم التعتيم عليها.

عزيزي القارئ عند عملية تسرب النفط إلى مياه البحار يبدأ في الانتشار تدريجيا وفي خلال ساعات قليلة يكون هذا النفط قد غطى مساحة كبيرة جدا من سطح البحر. ونظرا لأن النفط أخف من الماء فإنه يكون طبقة رقيقة تنتشر تدريجيا فوق سطح الماء وتتسع رقعة هذه الطبقة بمرور الوقت بفعل الأمواج والرياح، ولايتوقف الأمر عند هذا الحد، ولكن تحصل عملية تبخر الأجزاء الطيارة وتحمل الرياح هذه الأبخرة لتلوث هواء المنطقة المحيطة، وقد يصل إلى المدن والمناطق الزراعية.

إن خطورة الأمر يكمن بأن هذه الملوثات تلوث الشواطئ، حيث يصعب على المرء أن يسبح في مياه نظيفة، ونجد أحيانا مواد نفطية بالقرب من شواطئ البحار.

إن هذه الظاهرة ملحوظة في بلادنا، ونرجو المعذرة لعدم الإسهاب في أسباب التلوث النفطي والحوادث، حتى لايصير المقال بحثا علميا.

وجدير بالذكر أن ظاهرة النفط ليست وحدها هي التي تلوث البحار، ولكن هناك أيضا ظواهر أخرى مثل التخلص من النفايات والمخلفات الصناعية التي تحتوي على كثير من المواد الكيميائية السامة أو المشتقة في مياه البحر، أيضا إلقاء المخلفات البشرية بما فيها الصرف الصحي في البحار.. وسنخوض في هذه التفاصيل في حلقات قادمة إن شاء الله.

لقد تناسى هؤلاء العابثون بالبيئة أن هذا التلوث يودي بحياة الأحياء البحرية، التي هي مصدر غذائنا، وكذلك يودي بحياة الطيور، ويقول الله في كتابة «وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها..» سورة النحل آية (14).

والشيء الذي لا يتمناه المرء أن يتغذى على الأسماك المسممة، وهذا ما لانحتاجه في هذه الحياة الضنك والصعبة.

قد يقول الكثير منكم ماذا يريد كاتب المقال؟ أن يكف الناس عن استخراج النفط الذي يعتبر عصب الاقتصاد العالمي والتكنولوجيا الحديثة، طبعا الإجابة لا، ولكن أريد من كل ذي صلة بهذا العمل أن يرصد ولو جزءا بسيطا من الأموال المستفادة من استخراج النفط لمعالجة هذه التلوثات حتى يحدوا من خطورتها.

كذلك أطلب منهم أن تتغير نظرتهم إلى البيئة المحيطة بنا، كما يجب أن تتغير اعتقاداتهم بأن مياه البحار والمحيطات هي سلة المهملات الطبيعية التي يمكن أن يلقوا فيها كل أنواع المخلفات، لأن ذلك يوفر لهم تكاليف التخلص منه بتكلفة أقل، فللآخرين أيضا الحق في الحصول على بيئة نظيفة.

وعلى الرغم من أن المياه تغطي أكثر من (70 %) من مساحة الكرة الأرضية إلا أن طاقة البحار والمحيطات قد أصبحت محدودة اليوم وبدأت آثار التلوث تظهر بها بكل وضوح.

ومن هذا المنطلق أناشد جهات الاختصاص مراقبة هذه الأمور مراقبة صارمة، ووضع المعالجات السليمة والعلمية والمنطقية وسن القوانين الرادعة.

وأخيرا أقول لهؤلاء العابثين: ليس من حق أي فرد أو مجموعة من الأفراد العبث بالبيئة، كما تسول لهم أنفسهم السيئة، وأن البيئة ملكية عامة وليست خاصة.

* دكتوراه في علوم الأرض والبيئة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى