تجليات د. عبدالغفار مكاوي في كتاب مسرحي.. ثلاث مسرحيات من البيئة اليمنية

> «الأيام» د.هشام محسن السقاف:

> د. عبدالغفار مكاوي من جيل الكبار الذين تشكلت بمعطيات إبداعاتهم أخصب الأزمنة المصرية ثقافة وأعني العقد الستيني من القرن الماضي بكل ما غمره من إرهاصات وتحولات جدّ عميقة في مضماري السياسة والاجتماع، الحريات والحقوق، الوحدة والانفصال، التمدد القومي الناصري والانكسار. ومن وهج التيارات اليسارية والماركسية بالسمات المصرية المغايرة في كثير من الأحيان للسمة الشامية الغالية، يدلف ابن الدقهلية المولود في 11 يناير 1930م د. عبدالغفار مكاوي على المشهد الثقافي العام من مخارج الفلسفة ورحابة اللغتين الألمانية والإيطالية وبأصالة الانتماء إلى التيار المصري العارم بالوجوه الكبيرة ذاتها والكثيرة عطاءً تأصيلياً في الفكر والأدب والإعلام أمثال: صديق عمره صلاح عبدالصبور، وعلي فاروق خورشيد وعبدالرحمن فهمي، وبدر الديب ويوسف الشاروني ومحمود أمين العالم، ومن أساتذته: د. زكي نجيب محمود، أمين عثمان ويوسف مراد وعبدالرحمن بدوي. ومن هنا - أيضاً- جاءت نصيحة توفيق الحكيم له بالتفرغ للأدب عندما عمل بقسم الفهارس في دار الكتب العربية.

إن السفر إلى ألمانيا للغوص في مكنونات الأدب والفلسفة الألمانية يفتح أبواباً لعبدالغفار على الفسلفة المثالية الألمانية وفلسفة هيدغر توصله لنيل شهادة الدكتوراه في العام 1962م، ومن ثنايا أفق الفسلفة يتجرد المبدع لخوض غمار صنعته الإبداعية من داخل أروقة العمل الأكاديمي ومن خلال المسرح والأدب والفن والعمل الصحافي، وتعرفه الجامعات العربية ومنها جامعة صنعاء التي يصف فترة عمله فيها بأنها (أطيب سنوات عمري وأغناها بالرضى والطمأنينة والإنتاج الأدبي). وعندما تثقل صدره أوسمة الإبداع المختلفة التي نالها استحقاقاً وجدارة من جائزة الدولة التشجيعية في الآداب سنة 1976م، وميدالية (جوته) التي تسلمها في فايمار الألمانية، وجائزة التميز من اتحاد الكتاب المصريين، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب من مصر في العام 2003م، فإنه منذ العام 1995م يستقيل من جامعة الكويت ويتفرغ في وطنه (مصر) للكتابة الحرة والانشغال بإعادة نشر بعض كتبه القديمة.

عرفت د. عبدالغفار مكاوي في النصف الثاني من السبعينيات عبر مجلة «روز اليوسف» التي كانت من المجلات القليلة العدد المسموح لها بالدخول إلى جنوب الوطن، ومع أني في عمر لا يسمح لي بالاستيعاب والصبر طويلاً على مسرحياته المنشورة تباعاً في المجلة إلا أن اسمه كان قد نقش في الذاكرة منذ تلك الفترة، وعندما أهداني زميله المفكر العربي الكبير أبوبكر السقاف كتابه «مسرحيات يمنية: الليل والجبل، البطل، الحلم» من مطبوعات الهيئة العامة للكتاب 2008م، فإنني تذكرت جانباً من الكتابة المصرية عن اليمن، وخاصة بعد الثورة اليمنية، متجاوزاً ما كتبه أنيس منصور إلى تمخضات نجيب محفوظ القصصية من وحي زيارة له إلى اليمن في وقت كانت القوات المصرية تخوض معارك حاسمة للدفاع عن جمهورية سبتمبر الوليدة، أما الدكتور عبدالغفار مكاوي فإنه يصدر لـ(مسرحيات يمنية) بالقول:«شاءت المصادفات أن يكون أول كتاب أقرأه بعد أيام من وصولي إلى صنعاء (سبتمبر سنة 1978م) هو الحكايات والأساطير اليمنية التي جمعها الأديب علي محمد عبده، ولا يكفي أن أقول إن هذه الحكايات الشعبية أكدت لي وحدة الوجدان العربي والإنساني وأن بعضها قد اقترب اقتراباً شديداً من حكايات وأساطير وقصص تعدد أشكال التعبير عنها في الآداب الشعبية والعالمية (مثلاُ سندريللا وأوديب)إذ يبدو أنها غافلتني وهبطت في آبار الوعي وراحت تشكل على مر الأيام والسنين وتتخلق صوراً وشخصيات ومواقف وإيقاعات، حتى طغت ذات يوم أو ذات ليلة على السطح وأخذت تطرق باب الحياة طرقاً شديداً لكي ينفتح لها وتدون في أسابيع قليلة». لقد خرجت هذه الأحاسيس إلى رحابة دنيا الإبداع في قوالب مسرحية تختص بالبيئة اليمنية، ولكن دونما قيد يكبلها بالأصل، كما يقول المؤلف، مع اختياره الطابع الملحمي الذي بقوم على الرواية والسرد والتغليق على الأحداث، كما يتخذ في معظم الأحيان شكل (المسرح في المسرح) الذي يعد بدوره خروجاً على الدراما التقليدية أو «الأرسطية» فمسرحية (البطل) تعتمد في بنيانها الدرامي على حكاية (سيف القاتل) من كتاب عبده: حكايات وأساطير يمنية، الذي أوهمته المصادفة البحتة أنه خلص المدينة من الوحش(الطاهش)، كما تعتمد مسرحية (الحلم) على حكاية (على رأس الظلم تقع) من الكتاب المذكور وهي بلورة لدور الحكمة في إنقاذ صاحبها (الفتى الفقير) الذي اشترى ثلاثاً من هذه الحكم من عراف أعمى، وهي محاكاة أخرى تستفيد من الحكاية المشهورة (قمر الزمان وبدر البدور) من ألف ليلة وليلة.

أما مسرحية (الليل والجبل) فإنها تستمد مادتها من قصتين للأديب زيد مطيع دماج نشرهما في مجموعة من خيرة المجموعات القصصية التي ظهرت في الأدب اليمني والعربي الحديث وهي (طاهش الحوبان) عام 1979م ويتكرر ظهور (الطاهش) في هذه المسرحية رمزاً للقوى الوحشية التي طالما هددت سكان القرى الجبلية والوديان الموحشة ولاتزال تهدد الإنسان العربي من كل ناحية (د. عبدالغفار مكاوي).

إن توظيف الفلكلور والتراث الشعبي في الأدب من الأمور المعقدة الموحية بالمقدرة الإبداعية التي تقود صاحبها إلى إتيان درجة الإجادة والتألق والتماهي في النص دون أن يلغي أحدهما الآخر، وقد كنت معنياً بالاستغراق في المسرحيات الثلاث لأجد تكامل المؤلف بادياً ومبهراً في نصوص تستقيم على هيئتها المستقلة رغم الينابيع التي غذت عروقها في فيض الأسطورة التراثية اليمنية.

يقول المؤلف:«لقد اخترت الموضوع شكله كما قدمت قبل قليل، تألقت الصور والمواقع والشخوص والأفعال والأصوات والألوان في هذا الإطار ولم يكن ذلك عن تأثر بقراءة أو دراسة سابقة. فقد تأثرت (ببرشت)- وكنت أول من قدمه إلى العربية في عدد كبير من مسرحياته وأشعاره - كما تأثرت بغيره، ولكني ابتعدت عنه كذلك كما ابتعدت عن غيره، وحاولت ومازالت أحاول أن تكون لي تجاربي التي لا تختلط بتجارب غيري.

أعترف بأن (البطل) تدين بالعرفان لإحدى مسرحيات (برشت) التي كان لي حظ مشاهدتها قبل حوالي ربع القرن على مسرح (فرقة برلين) وهي (الارتفاع الذي يمكن أن يوقف لأرتورو أوي). ولكنها تدين كذلك بالفضل لسوفوكليس ومسرحيات الأسرار في العصر الوسيط ولأصداء ورواسب وخبرات أخرى يصعب علي تحليلها أو تمييز عناصرها. ومع ذلك فالمسرحية تعكس في المقام الأول رؤيتي لعصر الجراد الانتهازي الذي قدر لي أن أعيش فيه وأتعذب وأحاول بجهدي صدر زحفه على وطني والوطن العربي» د. عبدالغفار مكاوي

«مسرحيات يمنية» كتاب يضيف للأدب المسرحي العربي ويتماهى في مزايا وخصائص الإنسان اليمني والبيئة اليمنية بقلم أديب ومبدع كبير أفسح في حناياه وتجربته الرائدة مجالاً لليمنية بتجليات الإبداع المسرحي.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى