ضحكة المقالح

> أحمد يسلم صالح:

> ماتزال ضحكة المقالح هي الأشهر حتى الآن في اليمن، ليس لأنه يدفع ثمن تلك الضحكة أياما بل أشهرا من عمره في زنازين السجن، ولكنها (أي تلك الضحكة) عبرت عن صرخة مجلجلة أزعجت بصداها دوائر الحكم والقضاء وتجلت معها أصداء ثمة أسئلة لايجد المرء لها إجابة.

والضحك حالة انفعالية شعورية قد لايستطيع المرء خنقها أو كتمها بحسب درجة الإحساس بالموقف المثير. وإن كان الضحك عادة يرتبط بالمرح والسرور بحسب قول المثل (ماضحك إلا من سلا) إلا أن الحال يختلف حين يضحك الإنسان من مأساته لهذا قيل (شر البلية ما يضحك) وقد يكون الجهل أيضا مدعاة للضحك، فقد قال حكيم زمانه المتنبي:

يا أمة ضحكت من جهلها الأمم

والتاريخ ينبئنا كيف عديد من الفلاسفة والقادة واجهوا لحظات الموت بابتسامة ساخرة من جلاد لهم، فقد تجرع الفيلسوف (سقراط) السم مبتسما أمام تلاميذه تنفيذا لحكم كهنة الكنيسة.

لا يهمني من كل هذا الاستهلال السردي سوى التذكير بحادثة طريفة قد لاتكون بنفس درجة الشبه مع أن العرب قالت (يخلق من الشبه أربعين) حدثت في الزمن القريب، بطلاها رجلان تجاوزا العقد الخامس من العمر، واتصفت حياتهما بالطرافة وخفة الظل.

فحين فتح الله عليهما وسافر الأبناء إلى بلاد الغربة، وأمام حالة الحرمان التي عاشاها معا كصديقين متجاورين في زمن مضى فكرا في ترك القرية والانتقال إلى المدينة، وأول ما فكر فيه الرجلان هو بناء مسكنين متجاورين أنيقين يشار إليهما بالبنان.

أنجز العم مسعود منزله تماما مع كل الاحتياجات والحذر من أن تطاله أيادي السرق واللصوص بحماية النوافذ والأبواب الحديدية وما إلى ذلك.. إلا أن أبا عوض، صديقه وجاره، مع كل روح المنافسة في تجهيز البيت تغاضى عن شراء باب لمخرج البيت في السطح، الأمر الذي جعل العم مسعود يحذره ويستعجله في تأمين البيت، وهو الأمر الذي واجهه أبو عوض بالسخرية والشماتة إلى أن حلت الكارثة بأبي عوض حين اقتحم اللصوص منزله في ليلة ظلماء مستغلين انطفاء الكهرباء، بعد أن تسلقوا البيت من الخلف ودخلوه من مكان المحذور.

فأخذوا كل ما خف وزنه وغلا ثمنه من ذهب ونقود، حتى السلاح الشخصي، وحين حاول ملاحقتهم أطلقوا عليه وابلا من رصاص بندقيتهم مما جعل العم مسعود وكل الجيران يهرعون وسط استغاثات أبي عوض وعجوزه، الأمر الذي جعل من مسعود بروحه شديدة الطرافة يطلق ضحكة مجلجلة قصمت ظهر أبي عوض واخترقت روحه كسهام سمهرية أنسته مأساته في سرقة منزله.

دارت الأيام وبعد أن أعيا أبا عوض التعب والقهر ولم يجد للسارق من أثر، بل إن متابعاته وتردده بين أروقة النيابة والبحث جعلته يستدعى المثل القائل (ما تركه السارق أخذه المبشع) إلى أن كانت الصدفة وحدها قد قادت إلى اكتشاف أمر اللصوص ضمن جملة حوادث سرقة شهدتها المدينة.

وإلى أن حانت لحظة المواجهة بين السارق والمسروق وبحضور الجيران والعم مسعود كنوع من المؤازرة والتضامن مع أبي عوض، إلا أن روحه الساخرة ودعاباته جعلته الضحية: أبو عوض يفاجئ الجميع مخاطبا القاضي:

سيدي، لايهمني من هو السارق، صدقني لا أعيره أدنى اهتمام، الفلوس تأتي وتروح، والذهب وأي شيء آخر مادام الرجال في المهجر، فقط هناك شيء يؤلمني ويحز في نفسي أذكره ويذكره كل الناس ما حييت، بل ويتناقلونه للتسالي، أتدرون ماهو؟ إنها ضحكة مسعود هذا الذي أمامكم، فهو من يستحق المحاكمة أكثر من هؤلاء، ولن يشفي غليلي إلا أن أراه في القفص.

التهبت المحكمة بالضحك، ولم يتمالك الجميع أنفسهم حين غادروا المحكمة، وهم يضحكون.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى