لم يكن مجرد شوكي دار

> د.أسمهان عقلان العلس:

> حمل أهالي مدينة الشيخ عثمان إلى محافظ عدن (السابق) مطلبا ثقافيا بـ«عدم هدم شرطة الشيخ عثمان أو بيعها والإبقاء عليها مكتبة أهلية للمدينة وما جاورها من مدن مستحدثة تفتقر إلى النشاط الثقافي». (راجع نص المذكرة المنشورة في عدد سابق لـ«الأيام»).

وقد أغنى الأخ نجيب يابلي بحديثه عن الموقع مايمكن أن يكون مجهولا لدى البعض. وتلك المذكرة لم ينظر في شأنها إلى الآن.

هذه المطالبة الأهلية جوهرة، إذ لم تعرف المدينة منذ تأسيسها مكتبة أهلية للقراء، على الرغم من أنها عرفت العديد من المؤسسات العصرية منذ تأسيسها مباشرة.. ومثالا لذلك وجود مبنى المحكمة القديمة على مقربة من موقع الشرطة، وأول موقع للتعليم الحكومي للبنين في الشارع ذاته، وأول مدرسة للبنات في الرقعة الجغرافية غير البعيدة. وكانت رغبة الأهالي في المحافظة على موقع الشرطة وإعادة توظيفه ثقافيا، حبا منهم على مدى مايمثله هذا الموقع من قيمة تاريخية في أذهان مواطني عدن عامة، إذ لم يكن مجرد مبنى للقوة الشرطوية المسؤولة عن أمن المدينة، بحيث ينظر المواطن إليه كقوة قمع، لكنه بالنسبة لنا تاريخ مدينة وتاريخ وطن نشأ مع نشأتها، وعاصر أحداثها، وتفاعل معها، وأثر فيها.. وهنا تبرز قيمته كمعلم تاريخي .غير أنه بالنسبة لأهالي عدن ليس مجرد مبنى قديم يجب المحافظة عليه، بل إنه - للذين لايعرفون - أول موقع للبث الإذاعي في سنوات الحرب العالمية الثانية، ومن برجه المتواضع لعلع صوت الشيخ عبدالله محمد حاتم بأخبار الحرب ليربط عدن بأحداث العالم، في وقت لم يكن البث الإذاعي قد ظهر بعد في شبه الجزيرة العربية كلها.

ومن نفس الموقع قالت المرأة العدنية كلمتها في سنوات الحرب، وإن كانت كلمة مؤيدة لبريطاينا كإحدى دول الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.

وفي أثناء الحرب ذاتها صورت المرأة العدنية قوة الحرب على عدن عندما هاجمت إيطاليا بعض المواقع الإنجليزية في عدن.. ومن الموقع ذاته غنت هذه المرأة بصوتها هذه الأغنية:

ياسين عليك ياعدن

من ضربة المدفع

الناس قاموا فجع

والإنجليز ما توقع

***

ياسين عليك ياعدن

من هجمة الطليان

محجبة ما تبان

تزرع جواهر ومرجان

هذا النشاط الأهلي المبكر ومن داخل هذا المبنى شكل أرضية مناسبة للفعاليات الاجتماعية الأهلية التي تدرب عليها أبناء عدن مبكرا.

وفي الساحة المحيطة بمبنى الشرطة كانت مبادرات الأهالي في النشاط الطوعي في سنوات الحرب العالمية الثانية، وفي مقدمة هذه الأنشطة التبرع العيني والنقدي.

والوقوف على هذه الحقائق للقيمة التاريخية للمبنى سواء في قِدم بنائها أو في الأنشطة التي أديرت حوله، يكشف لنا حقيقة أنه لم يكن مجرد (شوكي دار)، بل كان قلب المدينة ومحورها.

وربما موقعه اليوم - من إشرافه على مبان أخرى كالمحكمة القديمة، ومبنى المدرسة الرائدة في تعليم البنين القريبة منه، ومكاتب البلدية (الحفيص) - شاهد على أنه بؤرة الشيخ عثمان، حيث تتمركز المدينة حوله ومن خلاله، ويجب أن يبقى كذلك. وتحويله إلى مكتبة أهلية يعد مطلبا ثقافيا خاليا من أية مضامين.

هذا الموقع الذي يراد له أن يتحول إلى موقف سيارات ومرافق للنظافة لاتتناسب مع ما اختزنه هذا الموقع من عبق تاريخي فريد، ولايليق به إلا أن يظل محورا للنشاط الأهلي.

أهالي الشيخ عثمان عندما بادروا في طلبهم بتحويل شرطة الشيخ عثمان إلى مكتبة أهلية كانت المحافظة على تاريخ هذا الموقع هاجسهم، كما كانت حاجة المدينة إلى مكتبة أهلية دافعهم في ذلك.

هذه المدينة التي سميت بـ(الفيحاء) لتخطيطها الفسيح وفضاءاتها الخضراء، قد أحيطت اليوم بأكوام من الإسمنت شوه معالم أحيائها، واقتحم خصوصيات أهلها في غفلة مقصودة من السلطة المسؤولة عن تراخيص البناء والتخطيط الحضري، فإن من حق أهاليها المحافظة على هذا الموقع شاهدا حيا من الماضي، واستثماره لخدمة الأهالي لأغراض ثقافية يعكس الوعي الحضاري بالقيمة التاريخية للمعالم، وإعادة توظيفها للصالح العام.

وليس هذا المطلب بعزيز على أهالي الشيخ عثمان، بل ومن حقهم الاحتفاظ بعبق التاريخ في ثناياهم.

وإذا كنا معاولا لهدم كل ماهو قديم فسنجد أنفسنا غدا في مدينة لاتربطنا بها وشائج الصلة وذكريات التاريخ.. فلا تجعلوا من مدننا أكواما من الإسمنت، ومن أهلها غرباء في مدنهم.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى