> «الأيام» مازن سالم صالح:

بالغ صديق لي في إطراءاته المتبدية، في ضوء إعجابه الشديد بموضوع سابق لي في صحيفة «الأيام» الغراء، تحديدا صفحة الأدب الجديد، مهد انطلاقتي الأدبية، والفضل بعد الله لمشرفها سابقا ولاحقا، والمقال بعنوان (ياشمس بلى ويا شمس مهلا) راجيا مني أن أتطرق للقمر، مادمت قد ذكرت الشمس، والحقيقة أنني ورغم مرجية صديقي، كان الموضوع مختمرا ببالي، لكنني ظللت أتحين الفرصة المناسبة واللحظة الطبيعية.. سيما أنني لا أحبذ المزج ولا التركيب، وإنما أترك للحظة الطبيعية حقيقتها المعيشة وسجيتها المتولدة وخيالها الحاضر بانسيابية تتوافق والمشهد الحاضر.

وهو ما لم يتوافر لي في ضوء الرغبة الملحة بالتعرض للقمر بسطور مستلطفة.. ولأنني ابن ريف، فقد تحسرت على ليالي القمر بعيدا عن أنوار الكهرباء، في ضوء محطات التجلي تجسيدا للحالة، وتوقا لتحقيق الرغبة، حتى أنني لربما ساورتني فرص تمني انقطاع النور حينها ولو للحظات عن الحي، لكن آثيريتي المعهودة تفوقت على أنانيتي غير المقصودة في تلك اللحظة، وأرشدتني إلى ذكر مآثر القمر في مواضع شتى من شعر ونحوه بدءا من قمر ابن زريق البغدادي وصولا إلى قصة ليلة بكاء القمر للمستدح.

لكن ترجمة الفكرة إلى سطور مكتوبة أرجئت حينها لعدم القناعة الكاملة إلا بالكتابة من وحي اللحظة الطبيعية، وهو ما توافر لي الشهر قبل الماضي حين انتصف قمر شهر ربيع الآخر، وألقى بأنواره الأزلية ببهجة ضوء محببة للنفس رغم الخليط المتداخل مع أنوار المصابيح الكهربائية في حارة العبدلله.. صحيح منتصف ربيع الآخر ليس كمنتصف شعبان، ولا بدر الربيع كقمر شعبان الشهير، لكن التوافقية النفسية وحقيقة اللحظة الشعورية جعلت الإصرار يقوى لدي بأن لا أفوت الفرصة التي لطالما كنت أتحينها. تركت حجرتي التي ما انفكت تنتظم فيها بانسياب أضواء القمر السحرية بعد اختراقها من الأعلى، على غفلة من شبابيك النوافذ المسدلة والنور الخافت، فذهبت إلى فناء الدار المتواضع آملا في رسم بهجة إضافية أو لحظة شعورية ممتعة لعلها تلهمني وسط حالة استعار الأسعار التي تذهب الكتابة الحية عندي لأيام، مع أنني إذا ما كتبت أكتب بدم القلب. تناسيت همومي الشخصية وحالة المعاناة التي يكابدها عامة السكان من أمثالي في نسيج المجتمع المشتت، ووفرت على نفسي ما استجد من متعة مجانية إلهية، جعلتني أسترسل في الانغماس فيها للاندماج معها واقتناص لحظات طبيعية. كان المنظر أكثر جمالا وسحرا، والجو ببديعيته رغم الحرارة المتبدية من أفقه بدرجة متدنية، يشي لي بضرورة الوصف ولو في أضيق نطاق، فخلت القمر حينها مرآة فضية مدورة، إطارها الفضي نسج بحكمة الخالق البديع، وأنواره المشعة مع نسائم الربيع، خيوط فضة عزلت على سطح السماء لتصنع لي بساط المتعة، فتجولت بين ثناياها، كسندباد رام أن يتجول في السماء لطول المكوث في الأرض. بدأ الجو في الاعتدال و مسامرتي للقمر لاتزال، وهو أيضا مايزال يتربع على السماء في بهجة من الليل بسكونه الممتع، رغم مروره المتريث من أقصى الجنوب ليتوسط كبد السماء، إلا أن عجالة التأمل لدي أفضت إلى استدعاء المفردات رغم المنظر وجماله، الذي بدا وكأنه فسحة من جنة مستلهمة، فاكتفيت بما تيسر، وعزمت على لملمة أشيائي للعودة للداخل، بينما هو كذلك كان قد عزم قبلي على السير إلى الشمال في طريق العودة، بانخفاض متدن، مع مرور خفيف بين السحاب في تخطٍ لطيف، بعد علو مرتفع في الأفلاك، إلا من ظواهر جغرافية تكتنفه في نظام أزلي من صنع الله الذي أتقن كل شيء خلقه.

فسبحان البديع المنير، من جعل الشمس والقمر آيتين، ولكن بحسبان من تقديره، إنه العزيز الرحمن!.