الدولة القهرية

> برهان أحمد إبراهيم:

> «.. إن الظلم لايقدر عليه، إلا من يقدر عليه، لأنه إنما يقع من أهل القدرة والسلطان..»

(ابن خلدون: المقدمة ص 228)

القوة القهرية أيا كان مصدرها، حزب أو منظمة أو طبقة أو مجموعة أفراد أو عصبية أسرية أوقبلية أو مذهبية أو طائفية بوضع يدها على سلطة الدولة تمثل تجسيدا صادقا لدولة القهر والاستلاب، لكونها لاترى في الدولة سوى أداة لنشوء وتنمية مصالحها الجزئية وفرصة لممارسة عنفها وفرض سيطرتها كقوة مطلقة نافية للمجتمع، وممزقة للولاء العام.

الدولة القهرية وإن كانت تخلط بين خيالاتها والواقع بخطاب تستدعي فيه كل القيم والرموز الوطنية، جاعلة من نفسها حارسا أمينا على تلك القيم أو بخدشها الوعود في برنامجها الاجتماعي لإظهار حرصها على مصالح المجتمع، إلا أنها عمليا تتخذ من ذلك الخطاب وتلك الوعود ذريعة لترسيخ سلطة القهر والقمع ولتزداد انفصالا عن المجتمع وإصرارا على إخضاعه للتصديق على سياساتها الظالمة.. ولأن دولة القهر والاستلاب هي صنيعة فكرها الكسيح.. ولأنها حبيسة رهابها.. ولرفضها أخذ جرعة من الواقع للشفاء من سطوة أوهامها ظلت وظيفتها متمحورة في مراقبة المجتمع ومنعه بالقوة من التفكير والإبداع وإنهاكه ماديا ومعنويا لشل فاعليته، وجعلته في حالة موت سريري إحكاما لسيطرتها وتأمينا لوجودها، مستعينة بنظام أمني مركب تستقوي به، احتكارا للسيادة المطلقة، لتبيح لنفسها- عندئذ- شن حروب وقائية ضد المجتمع لكسر إرادته وإبعاده عن المشاركة والمسئولية.. وهذه الدولة (القوة المستبدة) هي ذاتها من قصدها (ابن خلدون) بقوله: «نعني بقدرة الظالم، اليد المبسوطة التي لاتعارضها قوة ..». (ص 229).

إلا أن الدولة القائمة على القوة وحدها هي أكثر هشاشة وضعفا، وأعمق فتوقا وصدوعا، وأدنى إلى التفكك والانهيار، لأنها بنت سياساتها على أساسات واهية لم تستمد مكونات بنائها من معطيات الواقع بحيث تستطيع معرفة احتياجات ذلك الواقع وتلبية متطلباته واستشعار ومواجهة تحدياته.

ولكون القوة دون غيرها هي من شكلت بنية تلك الدولة وصاغت لها منظومتها القيمية والفكرية كان من البديهي فيها أن يطغى العسكري على دور السياسي، فطبيعة تكوينها تقر ذلك وتباركه مثلما تبارك وتفسر حالة انقطاع الدولة عن الواقع وعدم اعترافها بالشرعية المجتمعية، وسعيها إلى تجذير قطيعتها مع المجتمع توهما منها أن في قهرها للمجتمع وانقطاع صلتها به عزة لها ومنعة.

غير أن تلك القوة التي نشأت السلطة فيها وجعلتها مرجعية لها فراهنت عليها لمواجهة مشاكل الواقع هي دون شك من تجرها جرا إلى مرحلة التصدع والزوال.

فبتلك القوة تهزم دولة القهر نفسها بنفسها، فدواؤها داؤها!. وفي هذا يقول الدكتور (حسين مؤنس):

«.. وانقطاع الصلة هذا هو الذي قصر في إعمار الدول، فجعلت تقوم وتسقط واحدة تلو الأخرى.. لأن الأمر معتمد على القوة العسكرية.. فيبدأ الحكم سيئا ويسير إلى أسوأ حتى تسقط الدولة..» (الحضارة: ص 181).

فكلما انكفأت السلطة على ذاتها مستأثرة بالعرش والسلطان وطغت بالبطش والعدوان انعدم بذلك مبرر بقائها، وتأكد أمر سقوطها وفنائها.. وما انهيار الدول في التفسير الخلدوني، إلا نتيجة ظلم الفئة الحاكمة وانقطاع صلتها بالمجتمع. «.. وكل من أخذ ملك أحد أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقا لم يفرضه شرع فقد ظلمه، فجباة الأموال بغير حقها ظلمة، والمعتدون عليها ظلمة، والمنتبهون لها ظلمة، والمانعون لحقوق الناس ظلمة، وغصاب الأملاك على العموم ظلمة، ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها..» (المقدمة: ص 228).

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى