ماهو الشعر ؟ سؤالٌ قديمٌ متجدد !

> «الأيام» رعد امان:

> قال لي : هل الشعر نارٌ أم الشعر نور ، أم هو مزيجٌ من نار ونور؟ ماهو الشعر ؟ قال هذا ومضى تاركاً سؤاله يضج في خاطري ونفسي . وانقضت لحظة مرَّت كأنها دهر ، فأرسلتُ نظرة إلى السماء شقَّتْ عنانها ، واخترقت مجالاتها إلى حيث لا أدري ، وبقيَتْ تطوِّف في المدارات والأفلاك ، تبحث عن لفتة من جنيَّةٍ أو إيماءة من ملاك .. بقيَتْ تطوِّف علها تلقى الجواب واقفاً ساكناً واضحاً كالبدر في ليلة تِمِّه واكتماله ، ولما لم تظفرْ بشيء من هذا عادت إلى الأرض تلتمسه في الحزون والوديان ، في الصحارى والقفار،على التلال والمروج ، بين الأشجار وخلف الآكام ، في شواطئ البحار وعلى ضفاف الأنهار ، ولما لم تظفرْ بشيء من هذا وذاك سلكت فجاجاً ضيقة ودروباً موحشة ، وهناك على صخرة صماء ، انكفأت في انقباض وخيبة رجاء .. كل هذا في لحظة خاطفة مرت كأنها دهر .

هل الشعر نارٌ أم الشعر نور ؟ أم هو مزيجٌ من نار ونور ؟ ماهو الشعر ؟

اسمعي يانفس ، واسمعوا يا إخوتي ..

إذا كان الشعر ناراً فهو يحرق ، وإنْ كان نوراً فإنه يضيء .. وفي هذا لا أفصل أنا ولا أنتم ، ولا حتى مَن ينقدون الشعر ، العارفون بأسراره وخباياه ، إذاً مَن ؟

إنه الشاعر .. نعم إنه الشاعر ولا أحدٌ سواه ، هو وحده يعرف ما يعنيه ويقصده وما يرمي إليه ، ولا أخفيكم سراً إذا قلت إنه أحياناً لا يعرف ، وهنا تكمن إشكالية جدوى الشعر ، والفرق بينه وبين اللاشعر ، وفحوى أمر الغموض والفهم الأجوف الذي يطلب من الشاعر أن يتخذ من المنطق سُلَّماً إلى العقول ، بدل أن يتخذ من الإيحاء والإحساس مسلكاً إلى المشاعر والعواطف والأرواح .

إن الحديث عن الشعر لا يستقيم دون الحديث عن شياطين الشعر ، ويقولون إن لكل شاعر شيطاناً يوافيه من وادي عبقر في أوقات وأحايين محددة يلقنه الشعر ، وهو في الأصل يقوله ولكن بلسان الشاعر . وإذا التبس المعنى على الأفهام وعزَّها إدراكه ، إذا بهم يقولون : المعنى في بطن الشاعر . وبطن الشاعر منه - لو يعلمون - خاوية ، لاهي أدركته ولا هو ملأها ، فقد قالها الشاعر بإيحاء من شيطان شعره .. وكفى !

إن مسألة شياطين الشعر هذه عميقة ومتشعبة ، وإذا حاولنا الاقتراب منها فإنه سيلزمنا الكثير من الوقت والبحث ، لذلك فسوف نرجئه إلى فسحة زمنية أخرى ، وحتى تحين سنكتفي بالنظر إليها من بعيد بين الفينة وأختها ، علَّنا نرى شياطين الشعر وهي تتقافز حاملة مخيلات الشعراء التي لولاها لما حلَّقت بنا في فضاءات فِساح وسموات عِراض وآفاق رحبة مديدة .

الشعر رؤىً منسابة في دلال عجيب ، مزدانة بأنفاس ملونة تصعد باردة من رئات جِنان ساحرة ، وتظلُّ تتغنج على بساط الأفق النشوان من عطرها الفواح ، تنشره في كل أرجاء الدنيا ، فتسكر منه القلوب والأرواح وهي ماكانت لتسكر لولا الموهبة الحقيقية والعبقرية الفذة .. وكذا الشاعر الحقُّ الأصيل ، إنْ أنشد أطرب , وإنْ قال أجاد وصار ذكرى سائرة ، وتلك غاية الشعر .. أنْ يحيا في النفوس والوجدان عبر الأجيال والأزمان أبديَّ النبض سرمديَّ الضياء ، هناك .. في كنف الخلود .

هكذا يصبح الشعر مركباً يمخر عباب خضمٍ طامٍ أحياناً ، ويتهادى على صفحة بحيرة وديعة هادئة أحياناً أخرى .. وهكذا تهتزُّ المشاعر وتطرب في انتشاء غامر وقد لامستها قوافٍ رِقاقٌ عِذاب زفَّتها إيقاعاتٌ وأنغام ، وهكذا تثور ويهتاجها من الشعر بيتٌ ، ويلهبها منه شواظٌ وجمر .

الشعر يا إخوتي هو هذا وذاك ، فلا يقولنَّ أحدٌ منكم إن الشعراء يعيشون في أبراج عاجية، ويتقلبون على فُرُش من الدمقس والحرير ، ويلتحفون سحباً مخملية .. لا ، لا يقولنَّ أحدٌ ذلك ، فكم من شاعر عُذِّب وتألم ، وكم من شاعر نُفي من أرضه وحُرم من العيش في وطنه ، وكم من شاعر عاش غريباً في دياره وبين أهله ، وكم من شاعر دفع حياته ثمناً لموقف أو مبدأ آمن به أو بيت قاله ، ولا شيء لدى الإنسان أعز من روحه .

في دنيا الشعر - يا إخوتي - انتصار وانكسار ، ومن الشعراء من يعانق النجوم ، ومنهم من يتمرَّغ في التراب ، وفي كل الأحوال تأتي لحظة يرحل فيها الشاعر ويموت لأنه مخلوق زائل ، وتبقى الكلمة .. لأن الكلمة لاتموت .. يبقى الشعر .. لأن الشعر خالدٌ لايزول .

وبعد .. هل الشعر نارٌ أم الشعر نور ، أم هو مزيجٌ من نار ونور ؟

هل تراني بعد هذا أدركتُ ماهية الشعر؟ كلا ، لا أعتقد ، فلو أدركتها لأجبتكم وقلت لكم ماهو الشعر .. فيا إخوتي هل فيكم من يجيبني: ماهو الشعر ؟!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى