مدينة بلا بيوت

> «الأيام» علي محمد يحيى:

> عرف عن الشعراء أنه عندما يكون للأمكنة - صغُر امتدادها أو كبُر- صلات بمشاعرهم وإدراكهم بها.. فتتحول (هذه الأمكنة) إلى صور تشكلها الأحاسيس والمشاعر في وجدانهم، مما يجعلها بمثابة (مدن) خاصة بهم دون سواهم من الناس.. وهي كما نعلم ربما قبلها وحتى اليوم في عالم الحداثة، حـداثية الـشعر.

والأمكنة هي شرط من شروط الوجود الإنساني وهي في الوقت ذاته ذاكرة الشاعر التي يدون فيها تجربته ووجوده، وهي ذاكرته المفتوحة على كل مصادفاته المتوقعة والمفاجئة، فيحولها إلى بؤرة فيها من الدلالات الزمنية والسردية، تعبر في جلها عن درامية الوجود وخصوصية انعكاسات هذه الأمكنة، فهذه الأمكنة أو (المدن) أزعم يقينا أنها ليست بالضرورة أن تشبه المدن التي وجدنا عليها، نعيش في كنفها ومساحاتها وباحاتها، بل هي مدن من نوع خاص- خاصة بهم هم الشعراء- يتخيلونها ويبنونها في هواجسهم بإسقاطات من الرمزية.. تلك التي تتفاعل في أعماق دواخلهم فينجم عنها مؤثرات نفسية عميقة وتصورات هي أقرب في تشبيهها إلى أحلام اليقظة، فحلم اليقظة هو ما نعيشه ونحن بكامل قوانا الذهنية، ومع ذلك فإنه يبقى حلما، كان له صلة بواقعنا أم لم يكن إلا من ذاكره.

و(مدينة بلا بيوت) للشاعر الكبير عبدالرحمن السقاف هي من نوع هذه المدن التي كثيرا ما تخيلها الشعراء وأدركوها بحواسهم، في حين لم نستطع نحن إدراكها، وهي أيضا في تقديري لاتشبه مدن الشاعر الكبير الدكتور عبدالعزيز المقالح، التي رسمها في مجموعته (كتاب المدن) في شيء وضمنت قصائد عن إحدى وعشرين مدينة عربية وغير عربية، لأنه كما يصفها صاحبها بأنها (جداريات غنائية من زمن العشق والسفر)، أي أن لحظات من الزمن وذكريات مع نسائه الموسومات في كل قصيدة، كانت هي الصلة بينه وبين مدنه، إذ يرى الدكتور المقالح فيهن أن منهن من تشبه (البحيرات)، وأخريات كما (الضوء في همسه)، ومدن أخرى لم يكن له في ذكرياته معهن- مع النساء- ما يختزن، ولاتثير عنده حتى اشتهاء الكلام.

دعوني أرجعكم إلى قصيدة شاعرنا السقاف كما باح بها لنتجول معه في مدينته التي بلا بيوت. يقول الشاعر السقاف:

بمركب الشرود

أجيئك الغريب

نسيت ملمحا عرفته نهار إذ

أتيت مرة

قبل أن يفجر المساء سحنتك

جين كنت مرهف الشعور

فحينها أتيت

تلملمين لي الهوى

ما (بقي).. من السرور

وتزهرين خاطرا رهيف

ها هي الطريق نحوك غبار

قرى تموت

والرحيل شرَّد (الخبوت)

هيج الدمار

رأيته يغور

بأنه السكوت

رأيتك تلهث الخطى

جيفة/ تجارة

أوراق بنكنوت

أنا إذن أتيتك

يا.. مدينة بلا بيوت

وجئتك يشدني اشتياق

وجدتك مدينة

تعربد الخطى على المساء

تجارة وزيف

تجمع الشرود في عيوننا بلاعناق

فتهت في ازدحام عريك

على الطريق

وفي الرصيف

رأيت دمعة تمر بالتسول

وتسأل عن الرغيف

فرحت أوقظ المنى

وأبحث عن الرفاق

وأصدقاء (مقيل) الظهيرة

شذا البريق

وإنني لقيتك دموع

وجرحك البليغ لعنة

أتت من خنجر الأسى

.. فأين ضحكة الضحى

على الشفاه

أين من أشعل الفرائح

بضجة من الحريق

ليطلق الحياة

بمركب الشرود

أجيئك الحبيب

محملا شذى

رأيت عريك

مبعثرا سدى

تفله القيود

ولم تزل من الدجى

غليظة عصا الجنود

em:[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى