قصة قصيرة أحدث طريقة للعلاج

> «الأيام» عبداللاه الضباعي:

> لازالت سحنة وجهه لم تفارق مخيلتي حين رأيته يجر حمارا متجها نحو إحدى المزارع المستحدثة في الضاحية الجنوبية لمدينة الحرية.. يسير وجسده يتهاوى منحنيا كحرف (الألف) الذي كتبه طفل مبتدئ.. إنه صديق عمري المهندس مهدي، لالا ليس هو..! مهدي شاب في العقد الرابع من عمره وهذا رجل يكاد يبلغ من العمر أرذله.. شريط الذكريات يعود كالفلم إلى الماضي القريب في خاطري البعيد في حدوثه.. احتشدت فيه كثير من الصور الباسمة صور الربيع، الزهور، وجمال الطبيعة.. أيام كانت تمر بنا الحياة فيها ضاحكة الشروق باسمة الغروب، كنا شبانا نشعّ نضارة كورد بستان (الحسيني) المتفتحة للحياة.

كان مهدي شابا جميل الطلعة حسن المظهر قوي البنية يتوقد نشاطا وحيوية وطموحا تواقا للعلم والمعرفة.. تخرج من الجامعة يحمل مؤهلا معترفا به في أوساط المثقفين.. مرحلة طويلة صعبة كلفته عرقا ساخنا.. عند بوابة المزرعة استوقفه الحرس المدججون بالإسلحة لمنعه من الدخول.. فقال: ياللزمن الرديء أيمنع صاحب الحق من حقه؟!. قال له أحدهم: أي حق تتحدث عنه يا هذا؟. فرد عليه: ملك أجدادي وآبائي، فسيدكم لايملك غير السياج الذي أحاطه به وأقامه عليه دون وجه حق!. قالها بنبرات شحنت بطاقة هائلة من الألم والتأوه.. إنه هو، أجل إنه مهدي عزب، فنبرات صوته مازالت تحيا في ذاتي وفي مسامعي.

كنت أتأمل ما حولي وأبحث عن أرض فلاة مترامية الأطراف، ومن حولي كانت تجوب بعض الحيوانات، عادت بي الذاكرة إلى الماضي الجميل عندما كنا نأتي إلى هنا صباح كل يوم عطلة لنصطاد، حيث تنتشر قطعان الظباء والغزلان والحيوانات النافعة، كانت الوحوش المفترسة تلوذ بالفرار وتركض بين الأشجار هربا منا، كنا مجموعة من الأصدقاء من مناطق مختلفة، فينا الطبيب والعسكري والمهندس والطيار، تجمعنا المحبة.. لم تزل راسخة في ذهني الكثير من الذكريات، هذه الهواية الممتعة ربطتنا بعلاقة حميمة بالمزارعين البسطاء، كنا نحرص أن يقاسمونا ما نصطاد، نأتي أحيانا بذبائح الصيد معلقة على جوانب السيارة (اللاند كروزر الشاص) ندفعها إليهم فيقومون بسلخها، وتقوم النساء بطبخها وإعداد وليمة جماعية، نشعر بالرضا وتغمرنا السعادة حين نرى الفرحة والسرور قد ارتسم على وجوه الصغار والكبار ونحن نشاركهم حياتهم المتواضعة، نفترش الحصير في غرف أرضية بنيت من الطين (اللبن) أو في أكواخ من القش.. لم أعد أرى تلك الطبيعة الخلابة، فقد حجبتها بل أسرتها الأسوار العالية التي يتجاوز طولها مئات الكيلومترات.. لاندري ماذا يجري، منابع المياه العذبة من أكبر حقل كان يغذي أهم وأكبر المدن الرئيسة منذ عشرات السنين دون انقطاع يتزايد عدد المدججين بمختلف أنواع الأسلحة، يعتلي بعضهم أسوار المزرعة وينتشر البعض الآخر حول الأسوار، تساندهم الأطقم المحملة بالمدافع الرشاشة.. حشد هائل وحالة تأهب قصوى.. أسأل نفسي ماذا يجري؟ ولمَ كل هذا؟.. إحدى السيارات تنحدر من الخط العام إلى الخط الفرعي المؤدي إلى المزرعة تتوقف أمام البوابة، يترجل شخص لفّ رأسه بعمامة وفوق كتفيه شال من صوف ملون، شد خصره بحزام مزخرف تتوسطه (الجنبية) يرافقه عدد من المسلحين، استقبله الحراس بحفاوة.. أهلا ياشيخ (مقبل) يرد عليهم قائلا: لا أهلا ولا سهلا.. كيف تجرأتم على منع حماري من الدخول.. اعترتهم حالة من الارتباك، البعض يعتذر والبعض يحاول تبرير الموقف.. فقام أحدهم بضغط الزر الكهربائي الملتصق بجدار البوابة لتفتح الأبواب الآلية.. كان مهدي قد دخل بشراكة مع الشيخ مقبل في استثمار أرض زراعية، لا أدري كيف تمت هذه الشراكة وما هي دوافعها، الشريكان يحرثان الأرض على حمار الشيخ وثور مهدي.. احتشد البيطريون لاستقبال الشيخ مقبل وحماره.. يقول أحدهم: ما شاء الله ياشيخ، ما هذا الحمار النادر القوي؟!. فقال آخر: هذا ليس حمارا بل حصان. رئيس القسم البيطري حنتيرة يقول: نعم، حمار من سلالة نادرة تعود إلى فصيلة الخيول العربية الأصيلة.. في هذا الخضم قال الشيخ مقبل: هيا أبسروا لنا الحمار ياخبرة. البيطري حنتيرة يقول: ما فيه ياشيخ؟ ما شاء الله عليه بكامل صحته. الشيخ مقبل يرد قائلا: ما نفعل لشريكنا مهدي أصر إلا وإلا نفصحه.. هناك ثلاث علامات بارزة كالوشم على شكل دوائر في مواقع مختلفة من جسد الحمار. البيطري مروان يتفحصها بدقة، يدخل إلى المكتب يقف أمام الحاسوب ويعود مسرعا وبيده ورقة، ينظر تارة فيها وأخرى في جسد الحمار. وقال حنتيرة ساخرا من زميله: ماذا تفعل يابروفيسور مروان؟!. قال له مروان: الحمار مريض بمرض مزمن معدٍ وخطير!. حنتيرة يحاول أن يدافع قائلا: هناك لبس، هذا ليس الحمار الذي تقصده. مروان يشير إلى تلك الدوائر ويقول لحنتيرة: انظر إلى هذه الأرقام والتواريخ فهي مطابقة تماما لما هو في هذا التقرير.. منظمة الأمم المتحدة للتغذية والزراعة (الفاو) ضمن دعمها السنوي تبعث اللجان والخبراء الدوليين للمتابعة والإشراف على هذا الجانب، عدد من هذه اللجان قامت بالكشف على الحمار، يفصل بين كل لجنة وأخرى فارق زمني تحدده العلامات التي على ظهره، تقاريرها تشخص حالته ومدى خطورتها، وتوصي وتؤكد بل تشدد على التخلص منه، فبقاؤه سيؤدي إلى كارثة لاتحمد عقباها. حجة مروان القوية تجبر حنتيرة على الاعتراف، فقال: لاشك أن الحمار مريض مرض وراثي بالفطرة، ولدي القدرة على علاجه بكل كفاءة. يتبسم مروان، وينصرف حنتيرة ويسأل الشيخ: أين شريكك ياشيخ مقبل؟. يرد عليه مهدي: ها أنا ذا. قال له: اطمئن يا مهدي سنعالج الحمار حالا، لكن أين الثور؟. قال مهدي: في الحقل. قال البيطري: انهض وأحضره حالا. تعجب مهدي من طلب البيطري! وقال له: لماذا أحضره؟!. قال حنتيرة: أحضره ولاتسأل. قال مهدي: لكن الثور ليس مريضا. قال البيطري: اسمع الكلام وأحضره فورا ولاتضيع الوقت.. على مضض أذعن مهدي لطلب البيطري واتجه إلى الحقل، أثناء سيرة كان يحدث نفسه ماذا يريد البيطري من الثور؟! لعله يريد فحصه، ربما أصيب بعدوى، لكن الثور سليم وبكامل صحته ولم تظهر عليه أي أعراض مرضية!، وصل مهدي إلى الحقل وأخذ الثور وانطلق به إلى البيطري.. فأمر البيطري معاونيه أن يكبلوا الثور ويشدوا وثاقه.. قطعة الحديد التي وضعت في النار تحولت إلى جمرة حمراء يتناولها البيطري ليتقدم نحو الثور، يعترضه مهدي قائلا: ماذا تريد أن تفعل؟!. قال له: ألا تريد أن تعالج الحمار؟. قال له: بلى. قال البيطري: إذاً لاتعطلني، ودعني أقوم بعملي. قال مهدي: وما علاقة الثور بعلاج الحمار. قال البيطري: لابد أن أكوي الثور، لكي يشفى الحمار!!.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى