دار الظالمين خراب

> قاسم صالح ناجي

> حرية الرأي، وسلمية الاحتجاج والتظاهر، لم تكن نوعا من أنواع المحرمات، تدعونا إلى أن نتوب عنها، أو ذنبا نسأل الله أن يغفره.. كما أنها ليست خطيئة تآمرية تقودنا مكبلين إلى ساحة القضاء، وإلى خلف قضبان سجون النظام.

والشيء نفسه يمكن أن يقال أن الحرية والديمقراطية ليستا نظما عسكرية، قبلية، تجارية.. ولا قوانين وإجراءات استثنائية تغتصب الحقوق، وتقيد الحريات، وتعتقل الأفكار، وتحاكم الضمائر، وتزهق الأرواح، وتدوس الكرامة.

حقيقة ما يجري، أن الأمر الأكثر خطورة، هو أن تعدد الممارسات الديمقراطية السلمية (بهامشها المحدود) تشكل في ذهنية السلطة خطرا يهدد مصالحها، فلم تعد أمعاؤها قادرة على هضمها، أو التعاطي معها، غير أنه لم يبق أمامها إلا أن تنزع بشكل مواز في المقابل إلى أن تثأر لنفسها عن طريق افتعال الأسباب والحجج الزائفة، محاولة منها لإجهاض الحراك السياسي السلمي في الجنوب، وقمع احتجاجاته السلمية وممارسة جرائم القتل والاعتقالات والملاحقات والتضييق على حرية الرأي والصحافة.

لعلنا لا نأتي بجديد حين نشير إلى أن السلطة كعادتها تستخدم وسائل العنف أكثر من اعتمادها على الوسائل السلمية القانونية والدستورية.. والقوة عندها هي عامل أساس استقرار بقائها، ومحورها الأول الذي تدور حوله أجهزتها وأدواتها القمعية العسكرية والأمنية. إذن ليس ثمة شك في أن ثقافة القوة وكمائن العنف، وهراوات العسكر و (نزيف الدم) هي قوس قزحهم، ولغتهم الرسمية التي تعلموها وأجادوا استخدامها بامتياز. في هذا السياق الاستثنائي الأليم، ينبغي التأكيد على أن يوم 31 مارس 2008 سوف يدون على أنه يوم فارق في تاريخ الاختطاف الحكومي الليلي، الذي طال قادة ورموز القضية الجنوبية: حسن باعوم، علي منصر، يحيى غالب، على هيثم الغريب، أحمد عمر بن فريد وغيرهم.

لقد أدينت هذه الممارسات الهجينة المأزومة، بأقصى ما يمكن من التعبير.. ووصفت بتفصيلات همجية مؤسفة بطابعها القمعي المتطرف في الكتابات والمقالات الصحفية، والبيانات والتقارير المحلية والإقليمية والدولية المنظمة لحقوق الإنسان، وردود الأفعال السياسية والشعبية والحقوقية والمدنية والطلابية التي تفجرت غضبا بمسيراتها واعتصاماتها الاحتجاجية، ومواقفها التضامنية الواسعة، داخل الوطن وخارجه، بوصفها اعتداء صارخا على الحريات والحقوق المدنية التي ضمنتها المواثيق الدولية ومعظم دساتير العالم.

لم تكن أصداء (70) يوماً من اعتقال قادة ونشطاء الحراك السلمي الجنوبي قد هدأت، فإذا الحقيقة تتكشف عن تقليعة جديدة تأتي من وراء الإرث الانتقامي الإقصائي الذي توارت عنه خجلا شريعة الغاب، لتحاكم بالنيات الرموز الجنوبية الأحرار: باعوم، غالب، الغريب، ومن الكتاب ورواد الفكر: الخيواني والمقالح، الخيال، القرني، الصوري، وغيرهم لا لذنب جنوه، وإنما لكونهم يمارسون حقهم في التعبير السلمي.

وليس هناك من شك أن تعنت السلطة وإصرارها الممنهج على نمط ممارساتها السياسية القمعية الهوجاء، تكون قد تركت الموقف بمأساويته وتداعياته مفتوحا على احتمالات كثيرة، بما فيها أن تتحول العقدة إلى استعصاء، وتحمل في داخلها رسائل ملغومة جاهزة للانفجار (دار الظالمين خراب)، ومع ذلك فلم تكن مصادفة بعيدة عن الصورة التي تبدو في العقلية السلطوية، حين تسعى إلى اختزال قضية الجنوب بصفقات مشبوهة في حدود تسويات ومنافع شخصية سلطوية لا تتعدى مناصب، سيارات، ومنحا وهبات مالية.. وبتنوع دوافع الكسب والتنازلات ومقاربة المدار السلطوي على حساب القضية.

فقضية الجنوب، هي قضية مصيرية واحدة لا تتجزأ، ولا تقبل المساومة، قضية حية باقية بقاء شوامخ ردفان وشواطئ عدن، بعد أن حسم شعب الجنوب أمره وضمد جراحه في جو طلق من التصالح والتسامح والتضامن الجنوبي.

لسنا بحاجة إلى أن نشير إثباتا لهذه الحقيقة أن أبناء الجنوب بحراكهم الشعبي السلمي ليسوا بعدوانيين أو قتلة، ولا بعصابات نهب وتخريب وقطاع طرق.. وإنما هم أصحاب حق.. يبحثون عن قضية مسلوبة مغتصبة، وعن عدل وحرية وهوية ضائعة، يبحثون عن حقوق المظلومين والمحرومين، ومطالب الشباب وأسر الشهداء والمناضلين.. يبحثون عن دماء وجرحى النضال السلمي، وعن القتلة وعسس الليل وزوار الفجر.. شعب الجنوب قد غدا يملك قضية لها فلسفتها تاريخيا، وأهدافها وغاياتها، كما لها رجالها وشهداؤها ومعتقلوها، بعيدة عن أروقة السياسة الدبلوماسية القابع أصحابها في أبراجهم العاجية، وبعيدة عن الأساليب البروتوكولية (المحتشمة) مع نظام لا يرى في نفسه إلا جهازا للتحكم السلطوي، ووسيلة للسيطرة على الأرض والثروة والإنسان وهوس البقاء الأزلي.

فإليكم أيها الصامدون الشجعان خلف القضبان، تحية إكبار، وأنتم تصارعون قهر الباطل. لأنكم شرفاء أحرار.. لأنكم عظماء بقدر عظمة القضية التي تدفعون اليوم حياتكم ثمنا لها، فمهما يارفاق الدرب هنتم وتعذبتم، فإن في نهاية النفق ضوءا.. ومن محيط العذاب والعنف يشرق الأمل.. وكما علمكم التاريخ الحق يزهق الباطل.

وكلمات الحب والوفاء لصحيفة «الأيام» وناشريها، المنبر الحي والمتجدد ذي الانحياز التام والدائم إلى جانب حقوق الإنسان.. وهو التجسيد الذي لا غنى عنه لقضية الجنوب وحراكه الشعبي السلمي المتعاظم.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى