مجانين عدن

> فضل النقيب:

> قلت للأستاذ هشام باشراحيل: بمجرد أن استنشقت أنسام عدن هزني الحنين إلى الكتابة، وهل أجمل من صدر «الأيام» مكانا نسند رؤوسنا المتعبة إليه؟!. نظر الرجل ناحيتي وهو الذي إذا ابتسم أجاز، وإذا ضحك وجلجل انحاز، أما إذا صمت وتأمل فهو يعتمد المجاز على طريقة (الحليم تكفيه الإشارة). مع هشام باشراحيل وعترته وأصحابه الذين تتخطفهم النسور تحتل «الأيام» بامتياز ذلك التعريف القديم/ الجديد للصحافة، لكونها (مهنة المتاعب)، وريمة مهما تجملت وتزينت وتعطرت وأرضت هذا وذاك فلابد أن تعود إلى عادتها القديمة، ولايلزمها أن تعطف السجادة وتعتزل أو تستعد للتحول إلى مفارش على موائد المخابيز، كما كان يردد أستاذنا صالح الدحان عن الصحف التي لايقرأها أحد.

شعرت أن صاحبي يسير وسط حقول ألغام، وهو يردد مع المغني العنتري الذي لم يسمع به الجيل الجديد مع الأسف «كلما داويت جرحا سال جرح»، على الرغم من أنه سليل الصحافة المتوازنة المسئولة التي تحترم عقول قرائها، وتتمسك بالثوابت المجمع عليها وطنيا. وصاحبنا لايشبه- لا من قريب ولا من بعيد- صاحب الدب الذي أراد من كثرة حبه لمالكه أن يبعد ذبابة عن وجهه فكانت النتيجة أنه اقتلع عينيه وأنفه.. كما أنه لايشبه صاحب الأرنب اللاطي في جحر مكين استعدادا لإطلاق ساقيه للريح عند الخطر، فلما سلطت على عينيه الأضواء الباهرة أُخذ من أذنيه دون ترهيب ولا ترغيب وإنما بالحيلة والمكر.

«الأيام» تتميز أو تنماز- على رأي بعض اللغويين- بالإيجابية من نوع (الحياد الإيجابي) وليس (عدم الانحياز السلبي)، وهما الاصطلاحان اللذان تكسرت النصال على النصال في معنييهما، فلا ذا تأتى ولا ذا حصل، لأنه على مستوى السياسة ينتصب لنا المثل الشعبي «إذا كان الوجع في الرأس ما يفيد العلاج»، وقد أكلت الأمة من الشعارات ما أكلت حتى وهن منها العظم واشتعل الرأس شيبا، قبل أن تدرك أنها لم تكن تأكل سوى الورق بإدام المداد.. على كل حال ما علينا من كل هذا، وهو ليس موضوع حديثي الذي ابتدأ في عدن وانتهى في دول عدم الانحياز التي لم يعد يسمع بها أحد، وقد توفي الأقطاب جميعا: عبدالناصر، نهرو، تيتو، وسوكارنو، ومرجعهم بعد الناس وموازينهم شتى، إلى الله، وميزانه عادل واحد لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

عودة إلى عدن التي تنبعث من رمادها، كما تنبعث العنقاء من رمادها، فتراب هذه اللؤلؤة المدينة مجبول بحب الناس من التجار وإن جشعوا إلى المساكين وإن ألحوا وهلعوا، وبين هؤلاء وهؤلاء أقوام يرون حرها اللافح ورطوبتها الخانقة بردا وسلاما، كأنهم في منتجع في الجبال السويسرية، ويمكن النظر إلي كواحد من هؤلاء، وقد توفقت هذه المرة فحللت فندقا أنيسا في السويداء من قلب كريتر في الميدان، فكنت بذلك كمن عاد إلى المهد صبيا.. أطل من شرفة فندق (العامر) على ميدان الباصات حيث كنا نلعب الكرة في ذلك الميدان الخلفي من بعد صلاة العصر حتى يغمرنا الظلام.. ياسلام! مازالت الأصداء تتردد وأنا أردد بين فرحتين، فرحة اللقاء وفرحة انتعاش الذاكرة بزمنها القديم، ما قاله إما علي محمود طه و إما إبراهيم ناجي:

هذه الكعبة كنا طائفيها

والمصلين صباحا ومساء

كم سجدنا وعبدنا الحسن فيها

كيف بالله رجعنا غرباء

خرجت مع الفجر والأذان يترجع في الفضاء، والأقدام الأولى تدب نحو المساجد والأنسام- التي قد يتساءل الذين ينامون إلى الضحى أين هي- تغمر المدينة هدية للأولين المكرّمين الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما.. رددت في سري:

فامش الهوينى إن هذا الثرى

من أعين فاتنة الاحورار

أمضيت سحابة النهار الأول منتشيا أطمئن على وجود المعالم المغروسة عميقا في النفس، قطعت السوق الطويل من كشك الجرائد الشهير مقابل أبو (الليم والزنجبيل) الذي لايقل شهرة إلى باعة الكاذي والفل، حيث مقر الشرطة القديم مرات عديدة.

هذه مجرد مقبلات نخوضها في بحر من العرق محبة لـ (ليلى) العدنية المعتزة بوشاح الجمال، كأنها ملكة سبأ:

أمر على الديار ديار ليلى

أقبل ذا الجدار وذا الجدارا

وماحب الديار شغلن قلبي

ولكن حب من سكن الديارا

فليتخلد ذكر المجنون إلى الأبد، ومعه كل مجانين عدن.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى