الوطن والمواطنة والمنفى حينما يصير وطنا

> محمد علي محسن:

> (جميل أن يموت الإنسان من أجل وطنه، ولكن الأجمل أن يحيا من أجل هذا الوطن)، المتأمل في حالنا اليوم لايجد ثمة فرق بين وطن نشده صاحب القول (كاريل)، وبين وطن نبتغيه للحياه لا الموت، كما هو واقع الحال.

الفارق هنا هو في زمن إطلاق الجملة الخالدة في العصور الغابرة، والزمن الحاضر الذي مازالت فيه مجتمعات مثل مجتمعنا وكأنها عالقة في ذاك التاريخ الزاخر بالتضحيات الجسام والتخلف والفقر والمآسي والحروب الأهلية في سبيل الوطن.

مؤسف أن يموت الجميع على ذات الطريقة التقليدية المتواترة منذ قرون خلت حتى اللحظة الراهنة التي لم نفلح فيها بوطن يمنحنا الشعور بالحياة والأمل والمواطنة السوية والاستقرار السياسي والتنمية وغيرها من المفردات الديمقراطية والإنسانية والحداثية التي مازالت هاجسا مؤرقا لكل الباحثين عن وطن آخر جدير بحياتهم وتفكيرهم وأفعالهم وإخلاصهم من أجله، لا كما يراد له أن يكون أشبه باقطاعيات الدولة الريعية أو مقبرة فسيحة لرفاة الموتى والقتلى الهالكين في سبيل أن يحيا الحكام ويموت الوطن والمواطنة والحياة عامة كقيمة وغاية عظيمة من الخلق والوجود.

مذ توقفت دانات المعركة في يوليو 94م والمحافظات الجنوبية ساحة معركة أخرى لم تهدأ أو تتوقف حتى اليوم الذي تواجه فيه الاحتجاجات والأصوات المطالبة بإصلاح ما أفسدته الآلة العسكرية بالاعتقالات والمحاكمات وأيضا بالممارسات البوليسية والعسكرية التي قد تنجح في السيطرة على الوضع المتأزم لبعض الوقت، لكنها لن تفلح أبدا مابقيت هناك مشكلة اجتماعية وسياسية وأخلاقية بلا معالجة أو حل، ومثلما الجنوب يعاني أزمة مزمنة هنالك الشمال واقع تحت تأثير حرب صعدة المستعرة منذ خمسة أعوام، وكلما توقفت لهدنة أو اتفاق استؤنفت المعارك ثانية وثالثة وخامسة، وبين جنوب مغتلٍ وشمال مستعر ثمة وسط داخل في معركة سياسية غير محددة المعالم والنتائج، فالأحزاب السياسية الفاعلة في الساحة تخوض حربا إعلامية وسياسية وقانونية مع الحاكم بشأن انتخابات حرة ونزيهة تؤسس لوطن يتسع للجميع أو يموت.

هذه الأيام كثر الحديث حول القضايا الوطنية الكبرى كالقضية الجنوبية وحرب صعدة والحكم المحلي والنظام الرئاسي واللجنة العليا للانتخابات وغيرها، ما أخشاه هو أن تصدق مقولة الأمير اللبناني شكيب أرسلان القائلة (يفكر الوطني بالأجيال القادمة أما السياسي فيفكر بالانتخابات القادمة).

لسنا ممن يوزع صكوك الوطنية هنا، لكنني معني بتنبيه قيادات الأحزاب، وهي في أتون المعركة السياسية المحتدمة الأوجه، بأن الجائع لايمكن أن يكون مخلصا لوطنه، كما أن الاتفاق على صيغة لجنة الانتخابات لن يحل قضايا الوطن الملحة لاستقراره وازدهاره، ما لم توجد تنازلات حقيقية من الحاكم ذاته يصعب التعويل على حوارات الأحزاب دونما توافر للإرادة السياسية لمعالجة ما حدث في الجنوب والشمال، وستكون كل التوقيعات المبرمة أشبه بشهادة الزور ما لم تتحاور الأحزاب السياسية في مسألة الشراكة والمشاركة والوطن والمواطنة و.. و.. إلخ من القضايا الأساسية التي أهملت أو ربما سُكت عنها خوفا أو طمعا عند الحديث عن الديمقراطية والأحزاب وصناديق الانتخابات والدستور.

كثيرا ما أسأل نفسي، فكلما اشتد الخطب أجد السؤال القديم الجديد يبرز بقوة ومفاده: أيهما كان محقا جدي أم أبي رحمة الله عليهما؟

الشيخ الثمانيني الذي اختار المنفى (بريطانيا) وطنا له منذ مطلع الخمسينات حتى توفاه الله عام 81م ليوارى الثرى هناك بعد ثلاثين عاما قضاها كاملة ودون عودة لوطنه الأم، رغم كل المحاولات لإقناعه بأن زمن الثورة غير زمن الاستعمار الذي أجبره ذات حقبة على السير مصفد القدمين ولبضعة كيلومترات مدونا بذلك اسمه كأول سجين سياسي في المنطقة.

بالمقابل فضل الأب الخمسيني العيش في وطنه الذي نذر أجمل سنوات عمره فيه متطوعا في المليشيات الشعبية وبقرار حزبي لايقبل النقاش، فيما بقية الأعوام توزعت ما بين صاحب مطعم أو فلاح أرض ليستقر به الحال جنديا إلى أن انتقل إلى جوار ربه في مارس 2003 إثر مرض داهمه فجأة ودون معرفة كنهه ودون أن يجد له شفاءً أو علاجا في وطن لايأبه لأبنائه.. لا أدري حقيقة ما حدث، كل ما أعرفه هو أن الجد عاش كمواطن إنكليزي ومات كذلك في أحدث مستشفيات لندن، ودفن في مقبرة المسلمين دون أن يكلف أهله علاجه أو مراسيم دفن جثمانه قرشا واحدا، فيما الأب قضى جل عمره من أجل وطنه وثورته ومواطنته ووحدته وجميعها تبددت سرابا عند وطأة الحاجة!.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى