عدم دستورية تشريعي الإجراءات الجزائية والعقوبات لعام 1994

> د. محمــد علي السقــاف:

> بنهاية حرب صيف عام 1994 أقر مجلس النواب في جلسته المنعقدة بتاريخ 1994/9/28 التعديلات الدستورية بصيغتها النهائية، وأصدر الدستور الجديد في 1994/10/1، فهو دستور جديد مقارنة بدستور الوحدة، ويصعب تسميته بتعديل دستوري، لكونه شمل 80 مادة من أصل 128 مادة لدستور الوحدة الذي تم الاستفتاء عليه في منتصف مايو 1990، بينما دستور 1994 عدل دون استفتاء في 1994/10/2، وتم انتخاب الرئيس صالح بعد إلغاء مجلس الرئاسة السائد في دستور الوحدة.

في 1994/10/12 صدر القرار الجمهوري بالقانون رقم 12 لسنة 1994 بشأن الجرائم والعقوبات، وفي نفس اليوم صدر القرار الجمهوري بالقانون رقم 13 لسنة 1994 بشأن الإجراءات الجزائية، فدستور الوحدة المادة 95 و دستور 1994 المادة 119 نصا على أنه «إذا حدث فيما بين أدوار انعقاد مجلس النواب أو في فترة ما يوجب الإسراع في اتخاذ قرارات لاتحتمل التأخير جاز لرئيس الجمهورية أن ينفذ في شأنها قرارات تكون لها قوة القانون، على أن لاتكون مخالفة للدستور، ويجب عرض هذه القرارات على مجلس النواب في أول اجتماع له..». يلاحظ هنا أن هذه المادة وضعت شروطا يتعين على رئيس الجمهورية الالتزام بها قبل اتخاده قرارات بقوانين، حيث اشترطت أن يكون في فترة إجازة مجلس النواب أو بسبب وجود ظروف استثنائية توجب الإسراع في اتخاذ القرارات التي لاتحتمل التأخير، ولم تقل المادة إنه واجب أو من حق الرئيس، وإنما أجازت له ذلك الإجراء، بينما استعملت كلمة (يجب) وليس (يجوز) عرض هذه القرارات على مجلس النواب في أول اجتماع له، والسبب في وضع هذه الشروط والقيود أن تتحول سلطة رئيس الجمهورية في هذا الشأن إلى سلطة تشريعية عادية، لاتغتصب سلطة مجلس النواب في التشريع و(إنتاج القوانين)، ولاحظنا عدة مرة في السابق عدم الالتزام بكل الشروط لغياب الرقابة الدستورية، حين أخد مجلس النواب إجازته الرمضانية من تاريخ 1998/12/18 حتى 1999/2/1 فأصدر رئيس الجمهورية قرارات بقوانين لنحو 30 قرارا دفعة واحدة، منها بشأن المنح والإجازات الدراسية، وآخر بشأن إنشاء صناديق النظافة (القمامة)، وأخرى بنفس الأهمية ولاتحتمل التاخير. (راجع مقالنا: استبدال الانقلابات العسكرية بالانقلاب على الدستور، صحيفة «الشورى» بتاريخ 1994/4/25، العدد 311).

ووفق ما هو متبع تقليديا فإن نص المادة 119 (التي ألغيت في تعديلات الدستور لعام 2001!!) استوحت نصوصها من الدستور المصري لعام 1971 في المادة 147، وهو بدوره استوحاها من الدستور الفرنسي لعام 1958. في مصر القرارات بقوانين تعتبر وتسمى (لوائح الضرورة) أحيانا، وأحيانا وفق وصفها الدستوري (قرارات بقوانين)، ولاتعتبر قوانين حتى إذا قدمت بعد ذلك إلى مجلس الشعب المصري، وقد حكمت بهذا المعنى المحكمة الدستورية المصرية في حكمها بتاريخ 1985/5/4، بقولها إن إقرار مجلس الشعب للقرار بقانون لايترتب عليه سوى مجرد استمرار نفاذه، بوصفه الذى نشأ عليه كقرار بقانون، دون تطهيره من الحوار الدستوري الذي لازم صدوره. وتعليقا على هذا الحكم يقول الدكتور محسن خليل «بذلك يظل للقرارات بقوانين التي تصدر في غياب البرلمان صفة اللائحة منذ إصدارها وحتى بعد إقرارها من المجلس النيابي التشريعي».

فالقرار بقانون بشأن الجرائم والعقوبات، والآخر بشأن الإجراءات الجزائية، بصدورهما في 1994/10/12 بالتاريخ الهجري 8 جمادى الأولى 1415هـ بفارق عشرة أيام من تاريخ انتخاب مجلس النواب لرئيس الجمهورية في 1994/10/2 وفي 1415/4/26هـ لايتوافق مع فترة إجازة مجلس النواب حسب ما أعتقد، وهل هناك ظروف أوجبت الإسراع لإصدار تشريعين من أهم التشريعات التي تسنها الدولة، والمتعلقة بحريات وحقوق المواطنين وأمن المجتمع أيضا، وإذا كان الأمر كذلك، لماذ لم يصدر التشريعان منذ قيام دولة الوحدة في 22 مايو 1990، لينتظر صدورهما بقرار بقانون في 1994/10/12؟ ألم يكن بالإمكان إذا افترضنا مجلس النواب في إجازة أن يطلب منه بعد انتخاب الرئيس في 10/2 تمديد مدة انعقاده بدعوة الرئيس له بانعقاد دورة غير عادية وفق المادة 673 من دستور 1994؟ لكن هذا لم يحدث، والأخطر من ذلك أن التشريعين بشأن الجرائم والعقوبات وبشأن الإجراءات الجزائية اللذين صدرا كإجراء استثنائي يفترض أن تكون أملته ظروف لاتحتمل التأخير وفق المادة 119 التي أجازت ذلك، إلا أنها في الوقت نفسه اشترطت في هذه الحالة أنه يجب عرض هذه القرارات بقانون على مجلس النواب في أول اجتماع له بعد نهاية إجازته، وهذا لم يحدث، ولم يقدما لإقرارهما من مجلس النواب، وإلى الآن ونحن في نهاية يوليو 2008 لم يقدما إلى مجلس النواب.

وهنا أمران يثيران الدهشة وعلامات الاستفهام: الأمر الأول: أن القرار الجمهوري بالقانون بشأن الجرائم والعقوبات عدلت المادة 40 منه المتعلقة بالديات والأروش بقرار بقانون آخر رقم 16 لسنة 1995، وهذا التعديل وحده للمادة 40 في سنة 1995 اتخذ مجلس النواب في 2002/5/28 قرارا بشأنه فقط، تحت تسمية محددة بعنوان قرار مجلس النواب رقم 3 لسنة 2002) بالموافقة على القرار الجمهوري بالقانون رقم 16 لسنة 1995 بتعديل المادة 40 المتعلقة بالديات والأروش من القرار الجمهوري بالقانون رقم 1 لسنة 1994 بشأن الجرائم والعقوبات. لماذا إذن المجلس حصر إقراره على تعديل مادة واحدة، ولم يعط قراره بانتهاز المناسبة على جميع مواد القرار الجمهوري بالقانون بشأن العقوبات؟!.

الأمر الثاني: صدور قرار جمهوري بالقانون رقم 16 لسنة 1994 بتاريخ 1994/10/29 بشأن العقوبات والإجراءات العسكرية في نفس الشهر والسنة للقرارين السابقين بشأن العقوبات والإجراءات الجزائية لغير العسكريين، إذا جاز التعبير، ولاحظوا معي هنا الاختلاف في التعامل بين الحالتين، فالقرار الجمهوري بالقانون رقم 16 المذكور أعلاه صدر بديلا له القرار بالقانون رقم 6 لسنة 1996 بشأن الجرائم والعقوبات العسكرية، والقرار بالقانون رقم 7 لسنة 1996 بشأن الإجراءات الجزائية العسكرية، والقرار الأول رقم 6 لسنة 1996 تم إلغاؤه، وصدر بديلا عنه قانون (وليس قرار بالقانون).

قانون رقم 21 لسنة 1998 بشأن الجرائم والعقوبات العسكرية

والقرار الثاني رقم 7 لسنة 1996 بشأن الإجراءات الجزائية العسكرية عرض على مجلس النواب، ووافق عليه بالقرار رقم 3 لسنة 1999.

والسؤال الكبير هنا لماذا في نطاق الجرائم والعقوبات العسكرية تم تغيير القرار بالقانون إلى قانون خاص بالعقوبات العسكرية، ولماذا القرار بالقانون بشأن الإجراءات الجزائية العسكرية تم عرضه على مجلس النواب وإقراره وفق ما يتطلبه الدستور؟! لماذا إذن أهمل كل ما يقابلها من القانون، لما هو بشكل رئيس يتعلق بغير العسكريين؟ هل إحدى الإجابات الجزئية عن هذا التساؤل يتعلق بكونه على سبيل المثال القرار بقانون بشأن الجرائم والعقوبات رقم 12 لسنة 1994 الذي يتضمن ضمن أبوابه (الباب السادس جرائم العلانية والنشر) الذي لايوجد في قانون الجرائم والعقوبات العسكرية، وتغييره من قرار بقانون رقم 12 للجرائم والعقوبات إلى قانون يعني وجوب الحفاظ على الحد الأدنى من الضمانات الدستورية، وسيكون مثارا للنقاش والجدل؟! إذن فإن القرارين رقم 12 و13 لسنة 1994 مخالفان للدستور بعدم عرضهما على مجلس النواب لإقرارهما، ووفق اشتراط ذلك المادة 119 من دستور 1994 بخصوص إصدار القرارات بقوانين، وحتى لو تم عرضهما ووافق عليهما مجلس النواب سيكونان أيضا مخالفين للدستور.. لماذا؟ هذا ما سنوضحه الآن.

الدستور هو الذي ينظم سلطات الحكم في الدولة، ويرسي القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم، ويرسم لهذه السلطات ولايتها ووظائفها ليرعى الحدود بينها وفقا لمبدا الفصل بين السلطات، وقاعدة تدرج التشريع تجعل من القواعد الدستورية التي يوافق عليها الشعب تحتل المرتبة الأولى، بذلك يتميز الدستور عن غيره من القواعد القانونية في النظام القانوني للدولة بالسيادة والسمو، باعتباره القيد الأساسي لسلطات الحكم الثلاث، السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، يليه في التدرج التشريع الذي تصدره السلطة التشريعية وتلتزم فيه بأحكام الدستور، سواء كانت الأحكام الإجرائية أم الأحكام الموضوعية، ثم تأتي السلطة التنفيذية لتقوم بتنفيذ أحكام ذلك، وقد ترك الدستور بعض المسائل لتنظيمها من المشرع وحده، مثل المسائل المتعلقة بالحقوق والحريات التي نص الدستور على حمايتها وصونها، تاركا تنظيم استخدامها للمشرع، مثل حرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة وحق الاجتماع وحق تكوين الجمعيات والأحزاب، ومثل الحريات الشخصية التي كفلها الدستور ونص على عدم جواز القبض على إنسان أو حبسه أو تفتيشه أو تقييد حريته في الإقامة والتنقل.. تعتبر مثل هذه الحقوق من المجالات المحجوزة للتشريع الآمر الذي يقتضي أن يكون التشريع فيها بقانون.

ودستور الوحدة ودستور 1994 وكذا دستور 2001 خصصوا في الباب الثاني منهم لحقوق وواجبات المواطنين الأساسية، حيث أكدت تلك الدساتير أن المسئولية الجنائية شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على نص قانوني، وكل متهم بري حتى تثبت إدانته بحكم قضائي بات، ولايجوز أن يعاقب قانون على أفعال بأثر رجعي لصدوره، ولايجوز القبض على أي شخص أو تفتيشه أو حجزه إلا وفقا لأحكام القانون، كما لايجوز مراقبة أي شخص أو التحري عنه إلا وفقا للقانون.. وهكذا. ونفس الشيء في دستور مصر العربية لعام 1971 الباب الرابع حول سيادة القانون، والدستور الفرنسي أيضا لعام 1958، وفق نصل المادة 34 الذي عرض القوانين التي على مجلس النواب لإصدار القوانين المتعلقة بالحقوق المدنية وتحديد الجرائم والعقوبات والإجراءات الجزائية.. إلى آخر ذلك. في جميع هذه الميادين القانون هو الضامن لتلك لحقوق والحريات، لماذا القانون؟ لأنه من الاختصاصات الرئيسة للمجلس التشريعي الذي تنتخبه الأمة من جهة، ولأن القانون يتتبع مراحل من بداية عرضه كمشروع قانون يخضع لشروط كيفية اقتراحه والموافقة عليه، وإصدار القواعد والإجراءات التي حددها الدستور بهذا الصدد. لذلك يوجد في هذه الدساتير نطاق محتجز، دستور بالقانون لايجوز لجهة أخرى أن تشرع في نطاق آخر غير عبر مجلس النواب وعبر آليات إعداد القوانين ومناقشتها ثم إصدارها.

من هنا يتبين أن القرارات الجمهورية بالقوانين المشار إليها سابقا ارتكبت مخالفتين رئيسيتين، فمن جهة صدورها دون استيفاء شروط إصدار القرارات بالقوانين، ومن جهة ثانية موضوعا القرارين ينحصران في إطار القوانين لارتباطهما ضمن حقوق المواطنين، الذي كان يتوجب عليه صدورهما من مجلس النواب حصرا، لأنه المخول كمجلس تشريعي بإصدار القوانين.

لهذا آن الأوان أن تسعى الدولة اليمنية إلى أن تكون دولة قانون، تحترم سيادة القانون وسيادة نصوص الدستور الذي بموجبه أساس وجودها في السلطة وفق نصوص الدستور، فكيف يحق لها أن تتمتع بالشرعية الدستورية، وتنتهك هي بدورها الشرعية القانونية لحقوق المواطنين في حماية حرياتهم الشخصية والحريات العامة؟!.

ولعل السؤال الأخطر الذي ينتظر إجابة سريعة من الجهات القضائية والحكومة ومجلس النواب، كيف تجوز محاكمة مناضلي الحرية والحراك الجنوبي وإنزال عقوبات عليهم، في الوقت الذي أسس القرارين غير دستورية.. هل يجوز ذلك؟!. بانتظار الإجابة أطلقوا سراحهم حتى يعد لهم قانون له الصفة الشرعية والدستورية.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى