الصين عشاء بستة ألف دولار إن أحببت

> فاروق لقمان:

> حتى في الصين نفسها لم يسمع كثيرون من أهلها بمدينة هيفي وهي على بعد ساعة طيران من العاصمة بيجين. ولما زارها المراسل البريطاني جيسون برك قال إنه قطع المسافة من المطار إلى قلبها في أربعين دقيقة على طريق من ستة مساقات، ثلاثة في كل اتجاه وكان مثل غيره من الناس لم يدر بها إلا من خلال أخبار الصحف التي لا تزال مملوكة للحكومة وخاضعة بالتالي لأجهزة الإعلام الرسمية. لكن ما شاهده في هيفي كان كافياً لانبهاره بالمدينة التي كانت مجرد مستنقعات غير صالحة للعيش والعمل والتعليم قبل بضع سنوات. وأصبحت خلال عقد فقط سامرة عامرة تتجاوز ضعف مساحة باريس وتحتضن خمسة ملايين نسمة.

وهي مجرد واحدة من عشرات أو بالأصح مئات المدن التي بنتها الصين الشيوعية سابقاً خلال ربع قرن بعد أن مرت بفترة كانت فيها من أكثر دول العالم تخلفاً وفقراً وضعفاً حتى وفاة ماوتسي تونج وتولي دين زيابنج المصلح البرغماتي - الواقعي - الجبار الذي أمسك بتلابيب أكبر دولة في آسيا خارج روسيا ومعها سيبريا المجمدة معظم أيام السنة، وحولها إلى أسرع الدول نمواً في الكرة الأرضية. فهي تتقدم سنوياً بمعدل عشرة بالمائة مما يعني أعلى نسبة في العالم لا تقترب منها سوى الهند التي حاكتها بنبذ الاشتراكية التي قيدتها منذ استقلالها عن بريطانيا 1947 حتى وفاة السيدة أنديرا غاندي التي كانت مبهورة بالماركسية لفترة طالت أكثر من اللازم حتى اغتيالها عام 1983. ومثلها فعل بعض زعماء العرب في النصف الثاني من القرن العشرين وفشلوا بعدما هدموا اقتصاديات شعوبهم معهم. ومن حق رئيس الوزراء الحالي مانموهان سنج والسيدة سونيا غاندي ذات الأصل الإيطالي ووزير المالية العبقري، شيدامبران، أن يفخروا بأنهم فجروا ينابيع العبقرية الاقتصادية الهندية في كل اتجاه حتى جعلوها ثاني أسرع الدول نمواً.

لكن الحديث اليوم هو عن عجائب النمو الصيني، الدولة التي كانت أكبر امبراطورية يوماً ما بدون استعمار الشعوب الأخرى كما فعلت الدول الأوروبية والأمريكية واليابان. وهذه الأخيرة غزت الصين بعد تدهورها واحتلت منشوريا وتايوان كما احتلت واستعمرت معظم دول آسيا خلال الحرب العالمية الثانية.

ولما نفضت الصين عن كاهلها الاستعمار الياباني إثر الثورة الشيوعية بقيادة ماو أضاعت عقوداً في الركود الاقتصادي والانتفاضات الثورية التي كادت تدمرها قبل النهضة الجارية بعد وفاة ماو ومحاكمة العصابة الحاكمة بقيادة زوجته الموديل السابقة.

انتصبت هيفي إلى مدينة حديثة تضاهي مدن أوروبا في أقل من عشر سنوات بفعل التخطيط والتصميم المعاصر رغم الفساد المستشري الشائع في معظم دول الشرق الأوسط والأقصى حتى اليوم. ولما كنت من المتابعين للنهضة الصينية المعاصرة، ومثلها الهندية، بالزيارة والمشاهدة على شاشات القنوات الإخبارية والوثائقية أقف مشدوهاً أمام الجبروت الآسيوي الجديد الذي لم أعرف مثله إلا في أوروبا بعد الثورة الصناعية تلتها الهجمة الإمبريالية التي احتلت خلالها معظم دول العالم واستعمرتها ومنها أجزاء من الصين وكل الهند وجنوب آسيا والعالم العربي. قبل ذلك كانت الأساطيل الصينية قد وصلت إلى البحر الأحمر وبحر العرب وأقامت لها جاليات تجارية من أفرادها منهم من استوطن اليمن واختلط بأهلها وأسلم وتزوج منهم. كذلك فعل الهنود الذين أقاموا في الحديدة وكانوا في عدن عندما هاجمها البريطانيون واحتلوها بمئات من الجنود الهنود على ثلاث سفن بذريعة تافهة وهي نهب العدنيين لسفينة حجاج اسمها دريادولت - أو ثروة البحر. والحقيقة أنهم كانوا ينوون احتلالها لتحويلها إلى محطة تزويد أساطيلهم بالفحم بعد عام 1839 الذي كدسوه في التواهي أيام السفن البخارية، ثم بعد عام 1952 بنوا واحدة من أكبر المصافي لتزويد السفن بالوقود السائل.

وكأن النهضة الصينية حالياً لا تكفي استغلت الحكومة مناسبة استضافة الألعاب الأولمبية لإعادة تأهيل البنية الأساسية وترميم المدن وتنظيف البيئة وتجميل الحدائق وتصفية الشوارع من ساكنيها السابقين حتى أضحت كما ترى دولة شبه أوروبية وإن كانت قارة تقريباً بمساحتها وعدد سكانها وأكوام خزائن الاحتياطي التي تجمع لديها.

لكنها أيضاً تدفع ثمناً باهظاً سيعود بالضرر عليها وعلى بقية أنحاء العالم لأن الثورة الصناعية الحالية تنتج تلوثاً لم ير العالم مثيلاً له منذ الثورة الصناعية لاعتمادها الكبير على الفحم الذي تمتلكه وتستورده. فهي لا تكاد تكتفي بالطاقة من كل أنواع الوقود وتدفع أثمانها بكل يسر مهما بلغت. لذلك فإنها مع الهند تسببت بارتفاع أسعار النفط - مع عوامل أخرى - لأنها لو لم تفعل لتباطأت عجلات صناعاتها التي تزود العالم بالسلع بأرخص الأسعار تنافس بها وتكاد تثير جنون الدول الغربية إذ إنها تبيع بعض أفخر بضائعها بأجزاء يسيرة من تكاليف منتجات لندن ونيويورك وباريس.

تقوم الصين التي توفر بين مائة ومائتي مليار دولار شهرياً بتقليد أي منتج أوروبي باتقان يستحيل اكتشافه إلا بعد فحص دقيق بأحدث الأدوات من الساعة السويسرية إلى الغواصة الألمانية والصاروخ الروسي. أما السلع المنزلية والأقمشة والأغذية فحدث ولا حرج. هل رأيت القميص القطني الرائع الذي لا يتجاوز سعره دولاراً والساعة الإلكترونية التي تقوم بالخدمة عدة سنوات بدون توقف وبأبخس الأثمان؟

لكن التلوث الخطير مشكلة قائمة ومخيفة لأن الصين لا تستطيع الاستغناء عن الفحم كما أنها لا تقدر على رعاية صحة البيئة والإنسان بالمستوى الضروري ولما يسقط الملايين ضحايا للسرطان والسل والملاريا تقف عاجزة عن إسعافهم لأنها لا تملك الطاقة البشرية المدربة لإنقاذ شعبها وقريباً جاراتها من الخطر الداهم.

في الوقت نفسه يمكنك في شنغهاي عروس جنوب الصين أن تتعشى مع حرمك وخمسة أصدقاء وزوجاتهم بما يعادل ستة ألف دولار لا غير وتترك مكافأة للقائمين على الخدمة تعادل ثلاثمائة دولار أو أكثر إن أحببت.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى