الوجه القبيح والوجه المشرق للسياسة

> هيثم الزامكي:

> (السياسة مستنقع) (ما أقبح السياسة!) (لا تسألني لماذا، إنها السياسة)، نماذج لعبارات قد يتغير شكلها ولا يتغير مضمونها، وهي الإجابات المتوقع سماعها من أي مشتغل بالسياسة بعد اعتزاله لها، ولعلها الإجابات الأصدق التي يقولها السياسي من جملة ما أجاب به أثناء ممارسته للسياسة، ومن النادر أن تسمع إجابة مخالفة لمضمون تلك العبارات، وإذا ما سمعتها، فاعلم أن قائلها إما كاذب لم يعتزل السياسة بعد أو صادق عاش يتوهم أن ما كان يقوم به هو السياسة.

ولا يجوز الخلط هنا بين أخلاق السياسة وأخلاق السياسيين، فنتخذ من تلك الإجابات دليلاً نصنف من خلال سلوكياتهم كأفراد، لأن السياسية بمجملها نتاج أكبر من سلوك المشتغلين بها كأفراد، وترتبط بعوامل كثيرة ومعقدة ليس هذا موضع ذكرها، وينظر السياسيون إلى السياسة على أنها كمية ونوعية القيود التي يستطيعون وضعها أمام حركة خصومهم، سواء أكانوا من جنس تنظيمهم أم من خارجه، وبمرور الوقت يكتشف أولئك السياسيون أنهم قد وضعوا تلك القيود على حركتهم أنفسهم كما وضعوها على حركة خصومهم، وأن الجميع قد صنعوا حول أنفسهم دائرة من القيود أكبر من الدوائر الصغيرة التي صنعها كل سياسي بمفرده، فلا يكاد السياسي ينسلخ عن تلك الدائرة- يعتزل السياسة - حتى تظهر صفاته الإنسانية الأقرب إلى حقيقته، ويرتفع سقف صراحته في الحديث، وكأن السياسة عنده ثوب يخلعه مع أول خطوة له خارج تلك الدائرة، فنجد منهم من ينتقد سياسة المرحلة التي شارك فيها، وآخر يسابق الزمن ليحصل على أطول مدة ممكنة من الصدق في بقية حياته لكتابة مذكراته، وكثيرون هم السياسيون الذين قدموا بعد اعتزالهم السياسة خدمات جليلة للفكر الإنساني، أعظم من تلك التي قدموها أثناء ممارستهم السياسة، لذا فإن هؤلاء السياسيين يصنعون الوجه المشرق للسياسة بعد اعتزالهم لها ويحدث ذلك غالباً في الدول الديمقراطية المتقدمة، وأما في الدول المتخلفة فالسياسة لها أوجه قبيحة، إلا ما ندر، ويرجع سبب ذلك إلى الثقافة العامة السائدة في تلك الدول التي ينظر أفرادها إلى السياسة كمهنة وكمصدر للعيش، فلا يتخلى السياسي عن ممارسة السياسة عندما تكون مصدر عيشه، ولا يجيد مهنة سواها، كما تسهم النظرة السلبية للمجتمع تجاه السياسة كمصدر للفخر والتميز والمكانة الاجتماعية في إبراز الوجه القبيح للسياسة، فتجد أن أغلبية أفراد المجتمع يعرفون قادتهم السياسيين -وزراء نواب، زعماء أحزاب- أكثر من معرفتهم ببقية قادة الرأي في مجتمعهم من أدباء وصحفيين ونجوم الرياضة والفن.. إلخ، بعكس الدول المتحضرة التي قد تجد فيها رجال السياسة أقل شهرة، ويمكن أقل تقدير من نجوم المجتمع، ففي أمريكا مثلاً هناك الكثير ممن لا يعرفون أسماء وزرائهم أو حكام ولاياتهم، ولكن من الصعب أن تجد أحدا لا يعرف لاعب كرة السلة الشهير مايكل جوردون، أو الممثلة الأمريكية جوليا روبرتس، وكذلك الحال في فرنسا إذا ما قورن ساستها بمصممي الأزياء فيها، أو بنجوم رياضتها مثل زيدان وبلاتيني. ومن المفارقات الجديرة بالانتباه، ما يتعلق بنظرة المجتمعات المتحضرة والمجتمعات المتخلفة للسياسة من حيث كونها وسيلة للحماية تدفع الأفراد في الدول المتخلفة إلى جعل السياسة مصدرا دائما ووحيدا للحماية، فلا ينتهي ذلك المصدر - في الغالب - إلا بوفاة صاحبه ، أو دخوله السجن، أو نفيه بينما لا يحتاج ممارسو السياسة في الدول المتحضرة إلى السياسة كمصدر لحمايتهم كأفراد، كون مفهوم الحماية لديهم يرتبط بعناصر أكبر من سياسة الأفراد، تمثل قيما يلتزم بها الجميع كالدستور والقانون، وتجدهم في الغالب يمارسون السياسة لحماية قيم ونظم ومبادئ معينة خاصة بهم، ويمثل ذلك الوجه المشرق للسياسة بغض النظر عن اختلافنا أو اتفاقنا معهم حول تلك القيم والنظم والمبادئ.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى