حكم وقيم في معجزة الإسراء والمعراج

> علي بن عبدالله الضمبري:

> تتجسد (حكمة القيمة) و(قيمة الحكمة) من خلال تجلياتها الشاخصة على أرض الواقع المادي المنظور أو استكناهها في عالم الغيب المخبوء المذخور.. ولو أننا تتبعنا كلمتي (الحكمة) و (القيم) في القرآن الحبيب والسنة المطهرة لاستخرجنا منهما معاني ومبادئ وأفكارا ومدلولات وصورا وأهدافا تعمل على إضاءة العقل المسلم بنور «فاعلم أنه لا إله إلا الله» وتزكية أخلاقه على أساس (تقوى القلوب) وتربية وعيه وفكره وتعامله بصبغة «أسلمت لرب العالمين» وسلوك «أحسن كما أحسن الله إليك».

يعلمهم الكتاب والحكمة

«لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين» آل عمران 164.. وهذه المنة الإلهية إنما استجابت لدعاء الخليل إبراهيم وابنه إسماعيل (عليهما السلام) لما بنيا الكعبة «مثابة للناس وأمنا» البقرة 125 ورفعا أكف الضراعة إلى القريب المجيب، ودعوا ربهما بقولهما: «ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم» البقرة 129، لقد علمنا من القرآن أن «من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب» البقرة 269 في معنى لطيف طريف يشير إلى أعمال العقل (تفعيل دوره) في فهم النصوص ودراسة القضايا والبحث في المسائل وتحليل الأحداث وتعليل الوقائع والنصوص التي «ما يعقلها إلا العالمون» العنكبوت 43، مع وجوب درء التناقض الموهوم بين النقل والعقل.

ولعلي لا أكون مخطئا إن قلت إن إثبات صحة النصوص ودراسة سندها ومتنها يستدعي، بل يفرض ويوجب علينا أن نحول تلك الجهود في التفقه والتعبير إلى فقه واقع المجتمع، الذي هو محل تنزيل النص وهو ميدان الاجتهاد الأوسع، لأن فقه الواقع أصبح يتطلب من الأدوات والوسائل والتخصصات في شعب المعرفة الاجتماعية والإنسانية عناية كبرى إلى جانب فقه النص.. وكم ستكون النتائج باهرة العظمة إذا أدركنا أن الإسلام وأحكامه الشرعية تبدأ مع الناس من واقعهم، وضمن استطاعاتهم، وترتقي بهم حتى الالتزام بأحكام الإسلام والارتباط بقيمه الحضارية والانضباط بمعاملاته الإنسانية في تناغم وانسجام وتوافق بين صحيح المنقول وصريح المعقول وأحداث الواقع .

ومعجزة الإسراء والمعراج ذات حكم وقيم عظيمة ستبقى توتي أكلها كل حين، وتعطي معانيها ومدلولاتها في كل عصر ووقت.. وإذا كان من حكمها قوله تعالى «لنريه من آياتنا» الإسراء، فإن هذه الاطلاع على الآيات إنما هو مقدمة للمرحلة التي تلت المعجزة إذا كانت مرحلة مواجهة فكرية ومجابهة عسكرية، خصوصا بعد الهجرة النبوية.

ومن حكم إراءاته صلى الله عليه وآله وسلم «من آيات ربه الكبرى» النجم 18، أن يرى بعينه حقيقة وواقعية ما يدعو إليه فهو مثلا يدعو إلى الإيمان بالله جل في علاه، ويقال: أنه رأى ربه في المعراج- كما ذكر ابن عباس وأنكرته عائشة- فقد روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما إنه قال: راه بفؤاده مراتين مسلم 158/1 كتاب الإيمان 77.

ومن الحكم أيضا أنه صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله يدعو إلى الإيمان بعالم الغيب، فرأى الجنة والنار وسدرة المنتهى، وهو يدعو إلى الإيمان بالرسل فرآهم وصلى بهم إماما في بيت المقدس، ويدعو إلى الإيمان بالملائكة فرآهم كذلك وفق منهجية «ليطمئن قلبي» البقرة الإبراهيمية القرآنية البرهانية.

كما أن من حكم الإسراء والمعراج هو إعداد وتهيئة النبي صلى الله عليه وسلم تلك الثلة المباركة من المؤمنين والمؤمنات للمستقبل وبناء الدولة وإقامة الشريعة وصد الباطل ومحاربة الشرك والوثنية وتحقيق العدالة والمساواة وتعميق الرحمة والتواد والتعاطف والتراحم بين الناس، ونشر العلم والمعرفة وإشاعة السلام والأمان ورفض الظلم والبغي والجور والعدوان وتأسيس (واقع اجتماعي) جديد لا عهد للبشرية به يقوم على قيم جديدة تقاوم وترفض وتهدم كل القيم الجاهلية.

وفي كتاب المعراج في ضوء الكتاب والسنة الذي ألفه محمود صالح بغدادي القادري الكيلاني صفحة (42) عبارة تقول: «وفي الإسراء والمعراج علوم وأسرار ودقائق ودروس وعبر.. وفي المعراج فرضت الصلوات الخمس، وأوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم خواتيم سورة البقرة، فذلك إيمان وعمل ورمز على معان كثيرة منها أن الصلاة معراج القلب..»، ثم ينقل عن الأستاذ أبي الحسن الندوي علامة الهند ومفكرها الإسلامي قوله: «ولم يكن الإسراء مجرد حادث فردي بسيط رأى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الآيات الكبرى تتجلى له في ملكوت السماوات والأرض مشاهدة وعيانا، بل- زيادة إلى ذلك- اشتملت هذه الرحلة النبوية الغيبية على معانٍ عميقة دقيقة كثيرة وإشارات حكيمة بعيدة المدى، فقد ضمت قصة الإسراء أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو نبي القبلتين وإمام المشرقين والمغربين ووارث الأنبياء قبله وإمام الأجيال بعده، فقد التقت في شخصه وفي إسرائه (مكة) مع (القدس) والبيت الحرام والمسجد الأقصى، وصلى الأنبياء خلفه، فكان هذا إيذانا بعموم رسالته وخلود إمامته وإنسانيته وتعاليمه وصلاحيتها في كل زمان ومكان.

جعلناكم أمة وسطا

ربما يتذكر الأعزاء تلك المقولة التي أشارت إلى أن آية «وكذلك جعلناكم أمة وسطا» تقع في وسط ومركز سورة البقرة أي في الآية 134 من تلك السورة العظيمة التي بلغت آياتها 286 آية، وهي تتحدث عن تحويل القبلة من القدس إلى مكة التي تقع في مركز ووسط الكرة الأرضية، وبالتالي ارتبط المسجدان اللذان بناهما سيدنا إبراهيم ببعضهما ارتباطا توحيديا في المسير والمصير.. لذلك ربط النبي صلى الله عليه وسلم بينهما في العديد من أحاديثه، وضم إليهما مسجده النبوي الشريف في المدينة المنورة الواقعة بين القدس ومكة.

فبالنسبة للمسجد الأقصى الأسير الجريح، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل الله عز وجل خلالا ثلاثا: سأل الله عز وجل حكما يصادف حكمه، فأوتيته، وسأل الله عز وجل ملكا لاينبغي لأحد من بعده، فأوتيته، وسأل الله- حين فرغ من بناء المسجد- ألا يأتيه أحد لاينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه الله من خطيئته كيوم ولدته أمه» رواه أحمد 176/2 عن عبده بن عمرو بن العاص والنسائي 34/2 في كتاب المساجد وابن ماجه 452/1 والحاكم في المستدرك 434/2.

وبالنسبة للمسجد النبوي قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة من هذا» رواه أحمد 4/5 من حديث عبدالله بن الزبير ورواه ابن حبان 72/3 والمنذري 214/2.

وروى الشيخان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة في مسجدي هذا خيرمن ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام»، رواه البخاري 63/3 ومسلم 1012/2 والترمذي 147/2 والنسائي 35/2.

وروى أحمد عن أنس رفعه «من صلى في مسجدي أربعين صلاة لاتفوته صلاة كتب له براءة من النار وبراءة من العذاب وبراءة من النفاق» المسند 155/1 وفي مجمع الزوائد 8/4 وفي الترغيب والترهيب للمنذري 215/2.

وروى مالك في الموطأ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي» الموطأ 197/1.

وروى النسائي عن أم سلمة رفعته «أن قوائم منبري هذا رواتب في الجنة ما بين بيتي ومنبري أو قبري ومنبري روضة من رياض الجنة». كما أن مسجد النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم يقع وسطا بين المسجدين العظيمين اللذين بناهما سيدنا إبراهيم عليه السلام «إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والله ولي المؤمنين» آل عمران 63 فهل سيخذل المسلمون (روضة نبيهم) كما خذلوا قبلته الأولى؟!.

ياقدس يامدينة الصلاة

إن من حكم وقيم معجزة الإسراء والمعراج، افتراض الصلوات الخمس التي أهملها وتغافل عنها كثير من شباب المسلمين الذين «أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات» مريم 59 بينما نجد أطفال الحجارة في الأرض المقدسة يدافعون عن قبلتنا الأولى وكرامتنا المهدورة وقيمنا المغدورة وهم يصيحون (خيبر.. خيبر.. يايهود.. جيش محمد سوف يعود).. ولن يعود جيش محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا متوضئا طاهرا عفيفاً نظيفا.

لقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتطلعون إلى أفق المستقبل البعيد فيسألونه عن علامات الساعة وأشراط القيامة التي ستظهر على الأرض المقدسة في فلسطين، مثل مجيء المسيح الدجال ونزول عيسى عليه السلام وظهور ياجوج وماجوج وهزيمة واندحار اليهود على يد الإمام المهدي، فقد روى أبو يعلى 523/2 أن ميمونة رضي الله عنها قالت: «يارسول الله أفتنا في بيت المقدس، قال: أرض المحشر والمنشر ائتوه فصلوا فيه فإن صلاة فيه كألف صلاة، قلنا: ياسول الله فمن لم يستطع أن يتحمل إليه؟ قال: من لم يستطع أن يأتيه فليهد إليه زيتا يسرج فيه، فإن من أهدى إليه زيتا كان كمن أتاه».

أرأيت- أيهاالقارئ الحبيب- كيف تسأل (ميمونة) عن المسجد الأقصى الذي خذله النظام الرسمي العربي وخذل أبناءه المجاهدين، نسأل الله الثبات والنصر، وهذا يدعونا أجمعين إلى أن (نهدي إليه زيتا) لتبقى (قناديل الشهادة) متألقة بالنور، متدفقة بإحساس الرفض والتصدي والممانعة التي تواجه مؤامرات الاستنكار العالمي ومعسكر (المنافقين) الذين أصدروا الفتاوى المضلة والمذلة التي تتهم المجاهدين بأنهم (متهورون) و(منتحرون).. أما المطبعون مع(صديقتهم إسرائيل) فهم الزعماء والحكماء وأهل الاعتدال ودعاة السلام!! «وأنهم ليقولون منكرا من القول وزورا» المجادلة 2.

أيتها المسلمة أيها المسلم في كل مكان حافظ على قبلتك الأولى ومسرى نبيك العظيم وتكرم ببذل المال والنفس والنفيس لتحريره من قبضة الصهاينة المعتدين وعملائهم المأجورين «ولايستخفنك الذين لايوقنون» الروم 60.

مدرس بكلية التربية - جامعة عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى