فعلها (بن راشد).. من يحذو حذوه..ومن له مشروعية الاستفادة من مشروعه؟

> «الأيام» م. عبدالرحمن محمد العلفي:

> في موسوعته القيمة المنصفة، والموسومة بـ(موسوعة جورج سارتون في تاريخ العلوم) نقف على هذا العلاّمة الغربي المنصف وقد قسّم في موسوعته تاريخ العلم إلى فترات وجعل كل فترة امتدادها لخمسين سنة ثم يذهب لربطها بإحدى الشخصيات العلمية البارزة فيها.

فألفيناه في موسوعته يربط فترة (450-400 ق.م) وما بعدها بأرسطو والعلماء الإغريق من بعده، بعد ذلك يورد الفترة الصينية. وحين يأتي للفترة من 750م إلى 1100م (350سنة متواصلة) يجدها موقوفة على العلماء العرب دون منازع حيث تبرز فيها أسماء لوامع من أمثال جابر بن حيان، الخوارزمي، الرازي، المسعودي، البيروني، ابن سينا، ابن الهيثم ...الخ، ممن وردت أسماؤهم في موسوعته من مستوى هؤلاء العلماء. ثم وبعد 1100سنة يظهر جورج سارتون في موسوعته أول الأسماء الغربية، بينما «لقرنين ونصف يظل الشرف العلمي في الغرب شراكة مع علماء مسلمين مثل ابن رشد والطوسي وابن النفيس». ذلك أن «الاهتمام بالعلم والمعرفة -كان- جزءاً من فطرة المجتمع العربي وسمة لتقاليده» وقد شهد المنصفون من علماء الغرب قبل الشرق بما كان للعرب والمسلمين في تراثهم من طول باع في رعاية العلماء والعلم والإنفاق بسخاء على البحث العلمي.

وهذا ما دفع بمؤرخي الحضارات ومن أبرزهم السير أرنولد توينبي لأن يقروا ويعلنوا على رؤوس الأشهاد بأن الأطباء والعلماء العرب قد أثروا «بعلومهم وأسفارهم، ورسائلهم وكتبهم ومجلداتهم الموسوعية الضخمة من حيث معناها ومبناها كل العلوم والفلسفات والمعارف الغربية ولولاهم لما قامت نهضة أوروبا».

فمن خلال كوكبة لامعة من العلماء العرب والمسلمين الأفذاذ - جزاهم الله عنا وعن أمتهم كل خير- ترجمت نفائس عطاءات الفكر العربي والإسلامي «إلى اللاتينية والجرمانية وغيرها من اللغات الأوروبية في أوائل عصر النهضة فكانت النتاجات المترجمة الدعامات الأساسية للنهضة في أوروبا وتحرير العقل الغربي من سخافات الخرافات السائدة».

وعلى رأي أخينا الخلوق، وصديقنا الصدوق البروفسور العلاّمة محمد يحيى بن حسين الشرفي - رحمة الله عليه - فقد كان من أهم ميزات المثقف الغربي الناجح أنه يجيد اللغة العربية نطقاً وقراءة وكتابة.

رواداً..كُنا

طبعاً كان هذا في أزمان ليس من بينها زمننا العربي الرديء، بتعبير (أبو عمار) -رحمه الله- وفي عصور ازدهار الحضارة العربية والإسلامية حين كان الحكام بمختلف مسمياتهم وألقابهم والوزراء والحُجاب وذوو اليسار من أصحاب الثراء، يعلون من شأن العلم والعلماء ويضعونهم ضمن أولويات الرعاية والاهتمام فيتباهون ويتسابقون في (ماراثون) اقتناء نفائس ونوادر الكُتب، ويكلفون الأكفاء بترجمة ما لم يترجم منها إلى العربية ثم ينشئون لأجلها المكتبات العامة ومؤسسات ومراكز البحث العلمي والترجمة (دار الحكمة/ مثالاً في عهد المأمون) وفي سخاء وإيادٍ بيضاء يوفرون حيوات كريمة للعلماء فيستقروا اجتماعيا ونفسيا ويتفرغوا لعلمهم بحثاً وترجمة وتأليفا وتحقيقا. وللإنفاق على العلم والعلماء يوقفون الصدقات ليظل حبل العطاء العلمي موصولاً دونما انقطاع، فأين نحن اليوم من كل هذا وإنفاق الدول العربية مجتمعة على البحث العلمي يكاد لا يصل إلى (واحد من عشرة) مما تنفقه دويلة إسرائيل المغتصبة لحقوق الشعب الفلسطيني، و حتى أن أظهرنا اهتماماً بالبحث العلمي فليس إلا من قبيل (المنجهه) أما في حقيقة الأمر فإن مساحة اهتمامنا بالأبحاث واستفادتنا منها يفوقه كثيراً حديثنا عنها ذلك أننا دأبنا على (العشوائية) في قراراتنا ومواقفنا التي نـتخذها هكذا عفواً جزافاً دون اتكاء على مرجعيات (أبحاث ودراسات علمية) تقوم على حقائق ومعطيات ونتائج. أما علماؤنا فعن أحوالهم والأجواء والظروف التي يعملون فيها حدث ولا حرج فهم في الذيل من اهتمامات الدولة ورعايتها إلا من رحم ربي، وهذا استثناءات والاستثناءات لا حكم لها، وأمام هكذا واقع ليس لهم إلا البقاء (محلك سر) أو الرحيل إلى حيث من يعرف أقدارهم ويوفر لهم حياة كريمة مستقرة وإمكانيات تمكنهم من أداء دورهم العلمي في الحياة دون منغصات، وحسب الحكام والأثرياء العرب الإنفاق - وبلا حدود- على اقتناء القشور والمزيد من القصور والمظاهر البذخية الزائفة التي يصل الإنفاق عليها حد السفه!!

التماعة رائدة من سماء دبي (آل مكتوم)

لكن ولأن الأرض العربية ولاّدة ولا يخلو عصر من عصورها من رجال على إدراك واع بأهمية وقدسية العلم وعظمة وسمو رسالته، كما أنهم يدركون وبوعي تام أقدار العلماء وأحقيتهم بالرعاية والدعم، إذا بحاكم عربي أصيل مهموم ليس بالناس في إمارته الصغيرة مساحة والمنافحة عطاء ومكانةً لكبريات العواصم العربية، إذ به يُكذب ظنون (الآخر) فينا بأننا معشر العرب والمسلمين نعيش حالة (عداء مزمن) مع العلم والعلماء، بل ويفاجئ الزعامات والأثرياء العرب وقد فغر كل منهم فاه مذهولاً وإلى مسمعيه تناهى- عبر وكالات الأنباء والتلفازات والفضائيات العربية وبعض الأجنبية والإذاعات - إعلان الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم - حاكم إمارة دبي- عن وقفه عشرة مليارات دولار لأغراض «ترجمة وطبع ونشر المؤلفات والدراسات والبحوث العلمية والإنسانية، إلى جانب احتضان وتبني الكوادر العربية والإسلامية المتخصصة، والأخذ بيدها ومساعدتها في الوصول إلى أعلى درجات العلم والمعرفة والدراسة». ولتحقيق هذه الأغراض مجتمعة من خلال إطار مؤسسي معرفي علمي بمنأى عن الهرجلة و(الهوشلية) جاءت أبرز وأهم مبادراته -وما أكثرها- بإنشاء (مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة) ولعل من أبرز وأهم مكونات هذه المؤسسة العلمية الرائدة في وطنا العربي، (مجمع المعرفة) الذي وصفه صاحب المبادرة بأنه «سيكون بمثابة القلب النابض للمؤسسة». وأوجز رسالة المجمع «في توفير مصادر المعرفة ونشرها وتسهيل الوصول إليها، ورعاية المشاركين في إنتاجها، والقادرين على الإنتاج، خاصة الشُبان والشابات الموهوبين الذين يحتاجون لمن يأخذ بيدهم». هذا فضلاً عن مواصلة المجمع لأداء رسالته «من خلال عدد كبير من البرامج والمشاريع المعنية بالترجمة والنقل المعرفي وتشجيع التأليف باللغات الأجنبية، وتعزيز قدرات دور النشر العربية، إضافة إلى إصدار مجلة شهرية متخصصة في متابعة وعرض إصدارات دور النشر العربية والأجنبية».

لاستزادة من يروم الاستزادة

وحسب تأكيدات الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم لصحيفة (الدار) الإماراتية في مقابلة أجرتها معه مؤخراً، فإن مؤسسته «ستكون بيتاً وسنداً للمبدعين والموهوبين» من خلال:

-1 منح التفرغ للأدباء والباحثين والمفكرين، لتمكينهم من إنجاز مشاريع كتبهم وأعمالهم الجديدة.

-2 جوائز الإبداع لتكريم المبدعين في الآداب والأبحاث، سواء للأعمال الجديدة أو لمجمل الأعمال.

-3 برنامج ضيوف دبي، ينظم البرنامج استضافة المبدعين في دبي لفترات تتراوح بين شهر وثلاثة أشهر، يحلون خلالها علينا ضيوفاً معززين مكرمين.

-4 منح نشر أعمال الشبان والشابات الواعدين، حيث تتكفل المؤسسة بنشر الأعمال الجديرة ودعم توزيعها على المستوى العربي.

-5 منح التراث، وتستهدف دعم أبحاث التراث الهادفة إلى الكشف عن جوهره الحقيقي وتقديمه بأسلوب حديث وجذاب لأجيالنا الجديدة وللعالم.

وثمة مصادفة عجيبة لافتة وهي أن يوقف الشيخ (محمد) للأغراض التي سُقناها، عشرة مليارات دولار، كما تنشط وتعمل مؤسسته الرائدة في إطار ثوابت عشرة لا أكثر، وقد أوجزها سموه لـ(الدار) في ما يلي:

1.مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم مؤسسة تنموية تملك رؤية واضحة وهدفاً محدداً، هو الإسهام في جهود بناء المعرفة في العالمين العربي والإسلامي.

2.تدرك المؤسسة أن التخطيط والتنظيم وحسن إدارة الموارد، والوعي على الترابط والتكامل في أدوار منتجي المعرفة هو من شروط تحقيق التنمية المعرفية المستدامة.

3.تدرك المؤسسة أن بناء التراكم المعرفي هو سياق من التجديد والتطوير والتغيير والإصلاح الشامل وهو عمليات متتابعة ومتداخلة في بيئة منفتحة ومواتية للإبداع والتجريب والابتكار.

4.تؤمن المؤسسة بأن المعرفة والحرية وجهان لعملة واحدة، وأن بناء مجتمعات المعرفة يتطلب تطوير السياسات والتشريعات والإجراءات الضرورية لضمان حرية الفكر والبحث والنشر واستقلالية الجامعات ومراكز البحوث والدراسات، وحماية المفكرين والباحثين والمبدعين.

5.ترتبط مشاريع المؤسسة وبرامجها المعرفية باحتياجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتركز على تحسين البنية التحتية للمعرفة، وتطوير قدرات العاملين فيها.

6.تدرك المؤسسة الأدوار المنتظرة من قيادات ومؤسسات المعرفة، وستعطي أولوية لتحسين أداء المؤسسات وتطوير مهارات قياداتها في التخطيط الإستراتيجي وأساليب الإدارة الحديثة، وتكوين أجيال جديدة من القيادات الشابة.

7.لن تقبل المؤسسة في تنفيذ جميع مشاريعها وبرامجها بأقل من أفضل الممارسات العالمية، في الإنتاجية والجودة ومعدلات التنفيذ.

8.سيتركز عمل المؤسسة على التخطيط والمتابعة والتحفيز، وستنفذ مشاريعها وبرامجها بالشراكة مع مؤسسات المعرفة، ومنتجي المعرفة، وستتابع التنفيذ وفق أعلى معايير الأداء الدولية.

9.تتبنى المؤسسة وتساعد وتمول المشاريع والمبادرات والبرامج ذات الجدوى المعرفية، وبالتالي هي ليست جمعية خيرية ولا صندوقاً للهبات والعطايا. وسيرتبط تمويل المشاريع المعتمدة بمعدلات الإنجاز ومستوى الجودة وتحقيق النتائج المحددة سلفاً. المؤسسة ليست منافساً لأي من المؤسسات الأخرى، وهي منفتحة على الجميع، ومستعدة للتعاون مع كل العاملين في حقول المعرفة.

.. ودخل التاريخ

ما من شك أن الشيخ (ابن راشد) قد أرشده الله من خلال مشروعه الريادي هذا إلى صدقة جارية لا تفنى ولا ينضب لها معين، وبالتالي ليس بكثير عليه أن يحظى «بشعبية واسعة واحترام كبير على المستوى الوطني (دولة الإمارات العربية المتحدة) والمستوى القومي وحتى الدولي نظراً لمواقف سموه ومبادراته وأفكاره ورؤاه في كافة الأوساط التعليمية والإنسانية والاقتصادية ومساهمات سموه في التنمية البشرية والاقتصادية من خلال استثمارات حكومة دبي والإمارات عموماً داخل الدولة وخارجها والتي أسهمت إلى حد كبير في تعزيز علاقات دولتنا وشعبنا مع الدول والشعوب العربية والإسلامية والأجنبية وأكسبت دولتنا الثقة والاحترام الدولي وعززت موقعها على الخريطة الاقتصادية والسياسية العالمية» هذا بالرغم من أنها لم تمضِ سوى عامين وبضعة شهور على اعتلاء الرجُل سدة الحكم في إمارة دبي (في الرابع من يناير هذا العام 2008م احتفلت دولة الإمارات عموماً وإمارة دبي على وجه الخصوص بالذكرى الثانية لتولي سموه الحُكم) ولكن متى كانت أعمار الرجال الرجال تُقاس بالسنين والشهور؟ وإن لم يكن الشيخ (ابن راشد) وأمثاله - على ندرتهم نُدرة الدفء في شتاء ليل صنعاء القارس- هم الجديرون بأن يلجوا التاريخ من أوسع بواباته وعلى جبهته ينقشون أسماءهم بأحرف من نور ويوشمونها بذاكرات ووجدانات الأجيال..فمن الجدير بهذا إذاً؟!

.. وبعد هلاّ تحرّكنا

إن من النافلة الحديث عن وشائج عميق العلاقة ما بين بلادنا ودولة الإمارات العربية الشقيقة، كما أننا لا نأتي بجديد حين نذهب للحديث عن أهمية هذه المبادرة الريادية وضرورة مبادرة مؤسسات ومراكز البحث العلمي والجامعات اليمنية وكذلك العلماء والمفكرين والمبدعين لأن يكون لهم منها نصيب في خدمة ما لديهم من مشاريع ذات صلة باهتمامات واختصاصات (مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة) لاسيما ونحن كثيراً ما نزعم بأن ما يحول دون تنفيذ العديد من الرؤى والأفكار والمشاريع العلمية والمعرفية والثقافية والتراثية يعزى إلى «الإمكانيات المادية» فما أحرانا بالحركة- وفي الحركة بركة كما يقال- للاستفادة من هذا المشروع العلمي المعرفي الذي يكاد يكون غير مسبوق بالنسبة للأمة العربية من حيث أهدافه وثوابته وسخاء صاحبه في الإنفاق عليه. فحسبه أن بادر وكفى، والبقية تأتي وبالأحرى ينبغي لها أن تأتي منا معشر المفكرين والباحثين والعلماء والمبدعين وهيئات ومؤسسات ومراكز على صلة وثقة في الاهتمامات والتخصصات بتلك المؤسسة الرائدة، وعنوانها هل يخفى القمر؟ فهل نبادر قبل فوات الأوان؟

* عضو مجلس الإدارة، المدير التنفيذي بمركز (منارات)

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى