الأوائل..

> فضل النقيب:

> تغرّ بك المدينة حين تنتعش لأنها تستبدل جلدها كالثعابين موسميا، وحواسها الست تنتصب كالرادارات، تسجل الأرباح وتدفن ماعدا ذلك، أو توظفه للهدف نفسه في أحسن الأحوال، وتغر بك المدينة حين تنكمش وتفقد مواهبها، فلا تجيد سوى الزحف نحو الفناء، وفي أحسن الأحوال تتسول البقاء فتبدو كشمطاء متصابية تبحث لدى العطارين عن علاج لما أفسده الدهر، وهيهات أن تفلح، ذلك أن النبت الربيعي لاتتفتق أكمامه إلا إذا اصفر في الخريف وتساقطت معظم أوراقه ليتولى الشتاء ما تخلف منها، وبذلك تنبعث الحياة الجديدة من الهيكل الصلب للشجرة المتشبثة بأمها الأرض، أما الزبد فيذهب جفاء وأما ماينفع الناس فيمكث في الأرض.

أنت في مدينتك بين غربتين، كأنك تمتطي حصانين، واحد يشرّق والثاني يغرّب، فعلى أي جانبيك تميل؟.

أترى النّواسيّ كان يستبطن المدينة حين قال:

لي سكرتان وللندمان واحدة

شيء خُصصت به من دونهم وحدي

تسقيك من يدها خمرا ومن فمها

خمرا فمالك في سكرين من بُدِّ

أرقت ذلك المساء في غرفتي بفندق العامر في كريتر، ولم تغن عشرات القنوات الفضائية شيئا تجاه ذلك الشعور الخانق الحارق الذي لازمني حتى مطلع الفجر، حين أخذت المنابر في ترديد النداء، وكان أول زوار الفجر غربان المدينة التي هجرت الكرى معلنة استعدادها الأزلي لمشاطرة بني الإنسان أرزاقهم طوعا أو كرها، كأنها هي على علم بأن آلاف البشر في فوهة البركان يتمنون لو (تغربنوا) ليستمتعوا بفتوّة الغراب، وتأمينه الأسطوري لمعاشه، وقدرته على التحليق الحر بين بر وبحر وسماء، إضافة إلى شجاعته الخارقة ومهاراته الحاذقة التي جعلته مهابا بين الطيور وفي أوساط الخلق الذين تآلفوا معه عقب حروب دامية، خرجت الغربان منها منتصرة، ذلك أن معرفتها بالخصم منذ علمت ابن آدم كيفية دفن قتلاه قد جعلت منها مرجعا معتمدا لأسرار البقاء والخلود، ولو كان بيدي القرار لأعلنت (الغراب) إيقونة المدينة، وأقمت له تمثالا تحيط به النوافير والأرزاق لتتمكن جموعه من استعراض رشاقتها التي تنافس فرق الباليه العالمية، وجلابيبها السوداء اللامعة الأنيقة التفصيل والتي تحسدها عليها عارضات الأزياء العالميات في باريس وروما ونيويورك.

ألقيت نظرة من الشرفة على ميدان الباصات فاستأذيت بكثير من البشر ينامون فوق الأرصفة على قطع من الكرتون بعد أن انقرضت قعائد الحبال التي كانت تقيهم الحشرات الزاحفة وأذى الكلاب الضالة، وذلك عقب حرب (البسوس) التي طالت الغربان في السماء والبشر على الأرض، فلا ذا تأتّى ولا ذا حصل. عبرت إلى الميدان (ميدان التاكسي) في بحر دقيقة لأرصد بشائر الحياة الأولى التي يتشارك فيها أهل السّلا وأهل الصلاة.. «أهل السّلا في سلاهم، وأهل المساجد يصلون». حيرتني ظاهرة بكور (أصحاب التمبل) أما أكشاك الجرائد فمفهومة، وكان الاثنان في انتظار الزبائن على ناحية السوق الطويل، جهة الميدان، عرفت أن مدمني التمبل يستفتحون بمذاقه كمدمني السجائر، ويحبونه طازجا (فرِشْ)، كما أن المناوبين منهم فجرا يتزودون بتموين يوم عمل، وقد لاحظت أن مطعمي المفضل بجانب مقهى عثمان كان بين أوائل المبكرين، وقد جذبتني إليه رائحة البصل المحروق، فتناولت فطوري ثم عبرت إلى (أبو الليم والزنجبيل) في الركن المقابل، وكان بين الأوائل أيضا، قلت أعبر على ناحية سوق الكدر، حيث محل (عبده علي أبو البرد)، ولكن رائحة كريهة منعتني من الوصول إلى حافة حسين، ويبدو لي أن (زريبة) سرّية قد عششت بعد مستودع (بورسعيد) ومطعم (بالو) مقابل (أبو الزبيب واللوز)، عدت إلى السوق الطويل، وعبرته سريعا، فما من مشاة أو محلات في ذلك الوقت، حتى وصلت إلى موقف سيارات السوق، فلمحت صيدلية (بابل)، وعرفت أنها تعمل 24 ساعة.. ياله من خبر مفرح! وبجانبها كافتيريا صيرة، فسجلتها ضمن الأوائل، ثم اخترقت الزعفران حتى ركن الجرائد والتمبل، وكانت «الأيام» قد واكبت وصولي، فسجلتها ضمن الأوائل، ومن هناك عبرت إلى فرن (الأغبري)، واشتريت كيلو بسكت بالشمار موصّى عليه من صديقي (عبده يسلم)، وكان الفرن بين الأوائل. أغراني خمير صيرة فـ (ضربت 4 حبات واثنين دبل شاهي) فطورا ثانيا، وفي الفندق عاينت سكر الدم فكان 320 إكراما للأوائل.. آه يا كريتر!!.. فوددت تقبيل السيوف لأنها / لمعت كبارق ثغرك المتبسم.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى