محمد حسين هيثم.. صداقة .. وإخاء

> «الأيام» سعيد عبدالله سعيد:

> الصـدمــة: اعتدت منذ سنوات مضت وقَبْل ذهابي إلى العمل أن أُعرِّج على بائع الصحف والمجلات على الشارع العام أقف قليلا أقلبُ صُحُف الصَّـباح حتى إذا وجدتُ ما يدفعني إلى قراءته ذوقا وأدبا أُقْدِم على شراء هذه الصحيفة أو تلك.

إلا في صباح يوم السبت 3/3/2007 الذي نِمْت فيه نوما عميقا، جعلني أستعجل نفسي وأَمُر بجواره دون أن أُلقي عليه نظرة، ولكي لا أصل إلى العمل متأخرا بعد الساعة الثامنة صباحا، وأخذتُ أطوف بمكاتب الإدارة، وفجأة وقعتْ عيناي على صحيفة «الأيام» مُلقاة على الطاولة لكنني هذه المرَّة بدلا من أن أُطالعها من الصفحة الأخيرة كدأبي مع كل الصحف عدا المجلات (وهذه عادة قديمة لا أستطيع أن أتخلى عنها) أمسكتُ بها من الصفحة الأولى، فوقعت عيناي على صورة محمد حسين هيثم، وفيها نبأ رحيله المفاجئ فبغتني الخبر، وكان موته صدمة للجميع، ولم يكن يشكو من شيء حتى لحظة وفاته، وندمتُ على فراقه، وقلت في قرارة نفسي: «لماذا يرحل الطيبون ويخطفهم منا الموت هكذا بمثل هذه السرعة؟»، وعادت بي الذاكرة إلى الوراء 23 عاما خَلَتْ وأخذت صُوَر تلك السنوات تتراءى أمام ناظري.

بــداية التعــارف: كان لي يومان في الأسبوع أنتظرهما بفارغ الصبر، وهما يوما الإثنين والخميس، كنت أذهب فيهما إلى كُشْك العم علي محمد سعيد الكائن عند مدخل بلوك 5 في مِنْطَقة المنصورة، وهو لا يبعد عن منزلي إلا بضع خُطُوات، وأنتظر وصول الصحف والمجلات المصرية والكويتية (وكان ذلك في عام 1984) التي تقوم بتوزيعها مؤسسة 14 أكتوبر للطباعة والنشر والتوزيع، وكنت أصل إلى جوار الكُشْك بعد أن أفرغ من صلاة العَصْر وأرى أمامي قادما الأخ محمد حسين هيثم، وفي كل مرَّة نصل أنا وهو في نفس الوقت، وكأننا على موعد بذلك، وكنت أعرفه من خلال نشر صوره في الصحف المحلية، وقد عُرف كشاعر بعد أن نشر ديوانه الأول (اكتمالات سين) عام 1983، وكان يُعَد أصغر شاعر يمني من عدن يصدر ديوان شعر، وكنت أرفع يدي لأحييه، ويبتسم لي ابتسامته الودود الطيبة، ثم تجرأتُ ودنوت منه، ولم يسألني ماذا أقرأ، لكنه رأى في يدي مجلة الهلال وروايات الهلال، ومجلة صباح الخير ومجلة ماجد ومجلة زهرة الخليج، وكنا نَقِفُ قليلا نتحدث حول مواضيع هذه المجلات، وسألني عن ميولي الأدبية، فأجبته بأنني أكتب القصة القصيرة... وهكذا تكررت لقاءاتنا كثيرا، ومضت الأيام دون أن نحس بها، وفجأة اندلعت الحرب الأهلية 13 يناير 1986 المشئومة التي تركت في نفوس أهالي مدينة عدن جِرَاحا غائرة، وافتقدتُ هذا الرجل ولم أعد أراه أو أقرأ له، وسألتُ نفسي كثيرا تُرى أين ذَهَبَ؟ أم أن طُوْفان الحرب قد ابتلعه!؟، ولأنني كنت بعيدا عن اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين أو أية لقاءات أدبية لَمْ أحاول أن أسأل عنه، وليست لي أية صلة بأي أديب أو شاعر، وتركتُ أمري للأقدار لعلها تجمعني به مرَّة أخرى... وبعد تحقيق الوحدة اليمنية وتبادل الصحف بين الشطرين، قرأتُ في صحيفة من الصحف قصيدة لمحمد حسين هيثم وعَلِمْتُ أن الرجل قد انتقل إلى صنعاء وشَعرتُ بالغِبْطة والتفاؤل بأن الرجل مازال حيا يرزق، ترى هل انتقل قبل أحداث 13 يناير 1986م أم بَعْد؟

الرســالــة الأولــى: وعندما وقع في يدي عدد من أعداد مجلة الحكمة اليمنية عام 1999 ألفيتُ الأستاذ محمد حسين هيثم يَشْغَلُ منصب مدير التحرير للمجلة، وكنت مترددا هل أبعث له برسالة أعرفه بنفسي، وأذكِّره بالأيام الخوالي، وهي بالمناسبة أجدها فرصة أضمِّنها بعض العناوين الأدبية المتنوعة التي أصدرها اتحاد الأدباء والكُتاب اليمنيين صنعاء التي لم تصل إلى مدينة عدن ومازالت حتى هذه اللحظة، وأخيرا حزمتُ أمري وكتبتُ الرسالة وأرسلتها بالفاكس عبر مجلة الحكمة واتصلتُ به في نفس اللحظة، فرد عليَّ هو شخصيا وفَرِحَ عند سماعه لصوتي، وحاولت أن أذكره بتلك الأيام فقال لي أنا لا أنسى أيام عدن الجميلة والأصدقاء والزملاء...

اللقــاء الأول: آه منكِ أيتها الذاكرة لماذا تخذليننا في أحايين كثيرة فنعجز عن تذكر الشهور والسنين للحظات ممتعة وعذبة في حياتنا القصيرة؟ وندمتُ على أنني لم أُسجِّل تاريخ لقائي به بعد هذه الغيبة الطويلة، واكتفت ذاكرتي بحفظ سنة 2002م... وعندما اتصلتُ به في اليوم التالي لوصولي إلى صنعاء إلى مركز الدراسات والبحوث اليمني طَلَبَ مني الحضور قبل الثانية عشرة ظهرا، وأعطاني العنوان فقصدته بمعية نجلي الأكبر، وعندما دخلنا عليه المكتب، وهو جالس على الكرسي الناعم الهزاز ناديته :«أستاذ محمد» فنهض قائلا:« سعيد عبدالله»، فتعانقنا عناقا حارا، وتبادلنا القبلات وصافح ابني مصافحة حانية أبوية، وأخذ بأيدينا وأجلسنا على الأريكة التي أمام مكتبه قائلا لنا: «انتظروني قليلا حتى أنْهِي ما بيدي من أعمال ثم نغادر..»، وغادرنا مبنى مركز الدراسات والبحوث اليمني، وعند البوابة فوجئنا به يدعونا إلى مأَدُبة غداء، فحاولنا أن نَثنيه عن عزمه، وقلنا له: «إن هدفنا هو رؤيتك والالتقاء بك»، فأصرَّ على ذلك فأذعنّا له.. وأدخلنا مطعما فاخرا في شارع حَدَّة، وأخذ النادل يُمِدُّ طاولتنا بأصناف من الطعام، وأنا وابني نتعجب من ذلك، ونظرنا إلى وَجْه محمد حسين هيثم والدهشة على وَجْهينا قائلين:«لمن كل هذا الطعام» أجابنا ضاحكا: «لنا نحن الثلاثة»، ورددتُ عليه:«لكنه يكفي لعشرة» قال:«كُلْ ولا تهتم» وكان كل عمال المطعم يحيّونه فسألته:«يبدو أنك زبون دائم»، فأجابني والضحكة لا تفارق وجهه: «يعرفونني لأن كل الوفود أحضرها إلى هنا».وبعد خروجنا من المطعم أخذنا تاكسي وعُدْنَا إلى مركز الدراسات والبحوث اليمني وانتظرنا، ووجدته يجمع كتبا من هنا وهناك ويطلب من أحد السُّعاة أن يضعها داخل كرتونين ويغلفها باللاصق الشفاف وحَمْلَها إلى خارج المبنى، وخرجنا نحن الثلاثة، وجاء الساعي إلينا بسيارة أجرة، ودَفَعَ الأخ محمد أجرة السيارة مُقدَّما، وشدَّ على أيدينا مُودِّعا طالبا منّا تكرار الاتصال ومعاودة الزيارة، وخرجنا من عنده ونحن نشعر بالحرج والحياء.

صنعـــاء: مازلت أذكر زيارتي الأولى إلى صنعاء 1990، فهذه المحافظة الثانية التي أزورها بعد محافظة تعز 1988، فأعجبني هواؤها الرطيب الذي لا يتغير لا صيفا ولا شتاء، وبهرني العمران ونَمَط البِنَاء وشوارعها الفسيحة.. وعند زيارتي لأي مدينة من المدن اليمنية أو العربية أضع نُصْب عيني وضمن اهتماماتي زيارة المكتبات لشراء آخر الإصدارات أو اقتناء الكتب القديمة، وفي مدينة صنعاء عرفتُ كل مكتباتها وصِرتُ زبونا دائما لدى مكتبة الكلمة شارع القصر حتى يومنا هذا، وكذا باعة الكتب في شارع التحرير في صنعاء.

المفــاجـــأة: منذ أول لقاء مع الأخ محمد حسين هيثم لم تنقطع الاتصالات الهاتفية بيننا سواء في المناسبات الدينية أو الأعياد، أما زيارة صنعاء فكانت متقطعة إما بشكل شخصي برفقة العائلة أو عبر العمل، وكنا نلتقي هنا في عدن إذا حَضَرَ أي احتفال أو مِهْرَجان من المهرجانات التي ينظمها اتحاد الأُدباء والكتاب اليمنيين... ذات مرة اتصلتُ به للاطمئنان عليه وأخبرني بأنه أرسل لي كُتبا مع عبدالناصر باشجيرة، ولديه محل في شارع الأردن في الشيخ عثمان، وسألته ماذا يَقْرَب لك ؟ أجابني بأنه أخو زوجتي، ومن المصادفات أن مختار باشجيره المحامي أخو عبدالناصر هو زوج ابنة جَدَّتي، وهكذا صرنا أصهارا يا محمد، لقد تفاجأت بذلك وصار زيتنا في دقيقنا كما يقولون. هكذا هتفت وأنا أحادثه مسرورا..

صــراحتــه: وكنا نتحدث فيما بيننا أحاديث لا تخلو من الصراحة، وأطرح عليه بعض آرائي وانطباعاتي حول بعض الشخصيات الأدبية فيجيبني بمنتهى الصدق والصراحة..

أشيــاء أخـــرى: كنا أنا وهو في التاكسي في طريق عودتنا ظهرا من منطقة التواهي إلى منطقة المنصورة نتجاذب أطراف الحديث، وفوجئت به يسألني (لماذا لا أكتب نقدا من واقع قراءاتي للإصدارات الجديدة) فأجبته بدون مواربة (بعضها جديرة بالنقد وبعضها ليست جديرة بالنقد) فصمتَ ولم يُعَقِّب .. وذات مرة أبديت له إعجابي برسومات ديوانه (رجل ذو قبعة ووحيد) ط 2000، وسألته هل لدى هوزن وهيثم موهبة مثل هذه؟ وراح يتحدث عن هيثم وهوزن الصغير بحُنُو، وبأنهما كَيْت وكَيْت، وشعرتُ أنه يتحدث عنهما وعن موهبتهما كصديقين وعرفتُ كَمْ كان ودودا ورقيقا معهم كلهم.

الـدواويـن والكُتـب: كان محمد يُهديني دواوينه الشعرية فور صدورها، وأذكر أني طلبتُ منه بعض النسخ الإضافية من الكتب للأستاذ عبدالله فاضل فارع فقال لي (هذا أستاذ الجميع ويسرني هذا).. فكان يحب الناس أن تقرأ فيهديها دواوينه أو الكتب التي تصله بكميات كبيرة فكان يثقله هَمْ الكتب عندما يفكر في الخروج من هذا البيت إلى بيت آخر وقرأتُ بعد وفاته بأنه بنى له بيتا وأقام فيه (بدروما) كبيرا جعله لكتبه التي كان يفخر بأنها ستكون أكبر مكتبة شخصية.. ترى هل وطئت قدماه مسكنه الجديد أم أن يد المنون قد اختطفته قبل أن يرى ذلك؟

رحم الله صديقنا وأخانا وحبيبنا محمد حسين هيثم رحمة الأبرار وأدخله نعيم جناته.. إنا لله وإنا إليه راجعون.

يونيو 2008م

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى