إعادة الاعتبار للثقافة

> «الأيام» عز الديـــن سعيد أحمد:

> إن أهم مقياس يمكن أن ندرك فيه موت أو حياة الشعوب، هو مدى حراكها الثقافي والإبداعي، وعندما يتراجع دور الفن والإبداع بشكل عام في بلد من البلدان ندرك أن هذا البلد إما في حالة فشل ذريع أو أنه في حالة تقدم غير متوازن، وبالتالي عليه أن يراجع حساباته، لأن المدن التي تتباهى بالمباني والجسور وتسحق الإنسان ولاتصون كرامته ولاتملك حراكا ثقافيا مبدعا هي مدن بلا روح، أو على حد تعبير المبدع الراحل عبدالرحمن منيف هي (مدن الملح).

لذلك عندما أزور بيروت، رغم المصاعب السياسية والمعيشية التي يعانيها لبنان بسبب أزمته الحالية وتجاذب القوى السياسية، فإنني أحس بالحياة تنبض في كل شبر فيه، إنه شعب يحب الحياة، ويقاوم العدوان ليس بالرصاص كما قد يتخيل البعض، ولكن بالإبداع والفن، وخلال عدة مرات في العام أزور فيها بيروت أجد في كل مرة أن هناك على الأقل ستة مسارح حية تعرض مسرحا راقيا، وصفا طويلا من عناوين الكتب الجديدة، وعشرات المطبوعات والصحف المتنوعة، وعندما يغادر (العاطلون) ساحات بيروت- وأقصد بهم الجماعات المسلحة التابعة للأحزاب- بعد أوامر زعمائهم المحليين وتعليمات القوى السياسية الخارجية، وتعلن الصافرة انفراجا سياسيا وبعض الهدنة، أجد الساحات والمطاعم مكتظة بالناس، بأزيائهم الملونة، منطلقين نحو الحياة، ليبقى وضع التوتر وحالة الاقتتال حالة عابرة، ولكن الحقيقة الثابتة هي أن هذا البلد وجد ليكون ساحة للحرية والحياة النابضة، لأن روح الإبداع فيه طاغية ومؤثرة، ولأن الفن والثقافة حية ومتجددة!.

دائما أقول إذا أرادوا أن يقتلوا ببيروت فلن يكون عبر الدبابات وراجمات الصواريخ، ولكن عبر إلغاء هامش الحرية الفكرية والاجتماعية، وعبر إغلاق المطابع والمسارح، ولكن عندما يدرك الناس أن الفن والإبداع يعني لهم روح التجدد والعطاء والمقاومة وأنهم أساس البقاء، فإنهم يتمسكون بالإبداع أكثر من أي شعارات سياسية زائفة مؤقتة، أو رموز صخرية ونحاسية أو بشرية، والأسبوع الماضي كنت في عدن من مقيل إلى آخر، أرى أصدقاء الحرف والنغم، وأهرب من أحاديث (سياسية) باتت تبعث على الصداع الذي لايطاق، ورأيتني أعيش روح عدن الحقيقية، روح العطاء والتجدد، روح المدينة التي بقيت وستبقى بوتقة للانصهار الإنساني الخلاق، لأنها متمسكة بروح الإبداع والفن، وأرى أن نقف أمام ظاهرة المنتديات الثقافية الخاصة في عدن (منتدى باهيصمي، منتدى نجيب يابلي، مركز إدريس حنبلة، جمعية تنمية الثقافة والأدب، منتدى الطيب، منتدى الهلال الأحمر، منتدى خورمكسر، منتدى بن شامخ.. هذا غير منتدى صحيفة «الأيام»- المنتدى السياسي الشهير- وهذا يعني أن المجتمع العدني المشبع بروح العطاء والفن هو الأصل الذي يجب أن نقويه ونحافظ عليه، لأن كل منتدى من هذا اللقاءات هي في الأخير لو تأملناها بصدق وموضوعية سنجدها إضافة إبداعية حقيقية لكل الوطن، تتجاوز باقتدار كل الصراعات السياسية، حيث يبقى الأصل هو تمسك الناس بالفن والحرف والموسيقى عبر العمل الفني الأصيل.

الأمر الذي يعني الروح المتجددة التي تبث أنفاسها الحميمة للوطن كله.

هذه عدن التي صنعت بصمتنا اليمنية المتميزة فنا وإبداعا بروحها المبدعة المنطلقة للمستقبل والمنفتحة على كل الآراء، والحاضنة لكل الناس، عدن التي بقيت نافذة اليمن نحو المستقبل دائما.

إن ما أطرحه هنا، وأتمنى على الوزير المثقف الدكتور محمد أبوبكر المفلحي، وزير الثقافة، أن يوليه اهتماما خاصا، وهو اعتبار هذه المنتديات الثقافية مؤسسة رائدة من حقها على الوزارة أن تلقى الدعم المادي والمعنوي اللازم، وبكل بساطة فإن دخل صندوق دعم التراث والثقافة كفيل بأن يجعل من هذه الخطوة ظاهرة وطنية عامة تتجاوز عدن وحضرموت لتصل إلى كل اليمن، وتنشر روح الإبداع في كل الوطن.

وسنجد إذا قمنا بخطوة دعم لهذه المنتديات بعد عامين أن هناك أكثر من عشرين فرقة مسرح وعشرين فرقة موسيقى ومئات الشعراء والمبدعين في كل المدن اليمنية، خرجت من قوقعتها عبر منتديات الثقافة والإبداع، تعزز من روح المقاومة والبقاء، منطلقة نحو المستقبل، ونابذة لحالة الإحباط والفشل الحالية، متجاوزة كل أمراض السياسة المفرقة للأمة، لأن الفن هو الذي يوحد الناس والسياسة مفرقة.

صدقوني لايمكن أن نخرج من دائرة الركود والفشل التنموي والسياسي الحالي إلا بأن يكون لدينا روح مبدعة وثابة.

وحيث إننا أثبتنا خلال عقدين من الزمن إلى الآن فشلا سياسيا واقتصاديا مريعا، فلابد أن نلتفت بصدق إلى ترتيب الأولويات في خططنا، ونجعل الفن مع الخبز أولا.

ونعيد الاعتبار للثقافة والإبداع في هذا البلد، ابتداءً من خطط الموازنات العامة وانتهاءً بالنهج السياسي العام الذي يجب أن يبث في الناس قيم احترام الفن والإبداع، ونربي أطفالنا على روح التسامح والتذوق الفني، ويعود أهل الإبداع إلى صدارة الاهتمام ليكونوا مؤثرين في المجتمع، ونعطي الفن وظيفته الاجتماعية كموجه ومؤثر، ومنتديات عدن وحضرموت بتعددها الرائع خطوة أساسية نبدأ منها.

بدون ذلك سنبقى أسرى لغبار معارك لا طائل منها.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى