> د.هشام محسن السقاف:

سوف نرى في الانتخابات الأمريكية في النسخة الـ44 التي أوصلت أمريكيا أسود من أصول مسلمة إلى البيت الأبيض هو باراك أوباما مدى حيوية المجتمع الأمريكي وتوقه إلى التغيير دون أن يعني لنا ذلك تغيرا جوهريا في السياسات العامة للولايات المتحدة.

وهي بالمعنى ذاته رؤية أمريكية شعبية للإتيان بمنقذ للوضع الذي قادت إليه سياسات المحافظين الجدد على مدى 8 أعوام، أدخلت الولايات المتحدة الأمريكية في مآزق عسكرية في أفغانستان والعراق، ظلت الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ نيكسون وحتى ريجان تتجنب الوقوع فيها بعد أن غاصت الولايات المتحدة حتى الأذنين في وحول ومستنقعات الفيتنام دون أن يعني ذلك أنها قد تخلت عن هيلمان القوة وكاريزما القيادة للعالم (الحر) في مواجهة المعسكر الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفييتي حيث خاضت دول وجماعات -ومنها العرب الأفغان- حروب الإنابة بدعم من الولايات المتحدة في أكثر من مكان، ومنها حرب تحرير أفغانستان من الاحتلال السوفييتي. وبالمفاهيم الأمريكية للناخب الأمريكي لم تكن الأجندة التي حملت باراك أوباما إلى البيت الأبيض هي السياسات الخارجية للإدارة الجمهورية في المقام الأول، ولم تكن العراق وأفغانستان و(توبيا) الإرهاب والخطر النووي الإيراني المحتمل حاضرة في اهتمامات الناخبين بقدر ما كانت الضرائب والاقتصاد والتضخم والبطالة والأزمة المالية بطبيعة الحال هي حصان طروادة الذي قاد الناخب إلى الاهتداء للون أوباما الأسود دون أن يشكل له ذلك حساسية كانت تاريخيا سببا في إقصاء كثير من السود من تسلق قمة الهرم السياسي الأمريكي ابتداء من إبراهام لنكولن محرر العبيد وأردت الداعية مارتن لوثركنج قتيلا على درب الشهادة من أجل المساواة بين البيض والسود. غير أن الشعور بالتغيير والحاجة إليه وهو سمة أمريكية أصيلة في مجتمع متجانس لا يجمعه سوى الحلم الأمريكي في دولة متفوقة دائما، صرف النظر عن دعم السياسات المحافظة التي أوصلت القوة العظمى الأولى إلى لحظة اللارجعة نحو التفكك والانهيار، وترك الموقع (المخملي) الجذاب في بحار ويابسة العالم لقوى عالمية جديدة، متحفزة من خلف أسوار الصين أو حائط الكرملين أو حتى أوروبا الشريك الذي يولي ظهره للولايات المتحدة متى اقتضت المصالح ذلك، وهي منافس محتمل أكثر جدية من منافسة الصين مثلا، وهو ما أفصحت عن مكنوناته الأزمة المالية الحالية التي جعلت من دولة مثل ألمانيا متحفظة ومحاطة بأحاجي ومؤثرات لاتنتهي منذ أثر الحرب العالمية الثانية، ترفع صوتها بعد أن مسها ضر الأزمة المالية لتحمل الولايات المتحدة مسؤولية ماحدث .

إن الفرق بين جون كيندي وباراك أوباما هو الفروقات في المرحلة التاريخية، فالأول قد جاء لينفخ في عظم الولايات المتحدة لتجني ثمار مشاركتها ونصرها في الحرب العالمية الثانية، ولتحتل بجدارة موقعها المفترض كقوة رأسمالية عالمية قائدة للعالم الرأسمالي ووريثة للقوى الأوروبية التي أصابتها الحرب في مقتل، ولم تعد مؤهلة لدور قيادي ريادي كثمن تاريخي لابد منه في نهاية كل مرحلة، بينما يأتي الثاني (باراك أوباما) لكي يمنع مآلا في الاتجاه المعاكس ينقذ الولايات المتحدة من السقوط من علٍٍ كقوة عظمى رقم واحد في خارطة القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية في العالم، وهي جد مهمة صعبة لأنها سباحة ضد التيار وتحتاج إلى أكثر من معجزة .

لقد مثلث الانتخابات الأمريكية في أطول يوم في العالم، يوم الثلاثاء الماضي 4 نوفمبر 2008م مدى حضور المشهد الأمريكي عالميا، وكانت بحق معركة انتخابية حسمتها أصوات الأمريكيين، لكن بتشجيع وتحفيز ومراقبة ودموع وتصفيق وتفاعل من كل سكان الأرض شرقا وغربا شمالا وجنوبا، مع الاعتقاد أن الجميع أو غالبيتهم على الأقل قد سحرهم لون أوباما الأسود وأصوله الممتدة إلى كينيا ناهيك عن فتوته وشبابه في مقابل كهولة مكين وكلاسيكيته المجربة على المدى البعيد والمنظور، وهي غير مؤهلة لا عاطفيا ولا واقعيا في التجريب أو الاستمرار في خط التجريب السياسي المتغطرس للمحافظين الجدد الذي لم يؤت ثمارا منظورة لأصحابه أو حلفائه، مما يجعل التصويت عليه مجددا - أمريكياً - أو السير وراءه مجددا- الحلفاء- ضربا من المجازفة غير المحمودة العواقب !

لقد رأينا مؤشرات على توق العالم للتغيير في الحيوية التي احتفظ بها سركوزي في فرنسا مثلا، وبحثه ووراءه أوروبا عن مخارج متوسطية وأوروبية لخلق التوازن المفقود في العالم، وصعود براون في بريطانيا ليؤدي دورا يبتعد قليلا أو كثيرا عن الدور الآخر الذي أداه (توني بلير) رئيس وزراء بريطانيا السابق الذي لايختلف دوره تجاه أمريكا كثيرا عن دور العلاقات العامة في نظر الكثيرين، مما يحتم في منطق التحولات التاريخية أن يقابل على ضفة الأطلسي الأخرى بتغيير لايقل ديناميكية وحركة ليتناغم الأداء، دون أن يعني لنا ذلك كعرب ومسلمين كثيرا من الإيجابيات المنتظرة محمولة على بشرة أوباما السمراء أو على متسق من جذور عرقية لا تغير شيئا في بلد مؤسسي ترسم سياساته على رؤى واقعية بالاستناد إلى المصالح والمنافع وقوة التأثير الذي تخلقه جماعات الضغط واللوبيات داخل الإدارة والمجتمع الأمريكي .

لكن الدرس الذي يجب أن يستوعب حقا من الانتخابات الأمريكية هو الإرادة الحرة للناخبين التي حملت لأول مرة أمريكيا أسود إلى المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، بينما نرى أن دروس الديمقراطية في الوطن العربي ماتزال في العنوان ذاته الذي يبدأ (كفرا) من أول (السورة)، حيث يجري التشريع للنظم الشمولية والديكتاتورية ذاتها التي لجأت إلى (الديمقراطية) من باب (مضطر أخاك لا بطل) ووجدت فيها محللا لبقائها الطويل وتنويع الأدوار في الدور القديم ذاته، ومحاولة مغالطة العالم الحر بالصور البائسة والمفبركة التي يصنعها إعلام هزيل لطوابير المصطفين للإدلاء بأصواتهم، بعيداً عن حقيقة الديمقراطية وجوهرها الذي يشوه ويقتل بإصرار الأدوات والأجهزة ذاتها التي كانت وظلت حتى اللحظة تتحدث عن الديمقراطية وتمارس نقيضها.