المنتديات الثقافية في عدن.. ملاحظات ومقترحات

> د.سمير عبدالرحمن الشميري:

> أنا مشغوف بعملية المثاقفة والحوار وتبادل الخبرات وبالسجالات الفطنة التي تضع الحافر على الحافر، والإصبع على الجرح، وتفتح آفاقا رحبة للمطارحات اللبيبة والتأمل الثقافي المثمر والنقد البناء، وتضيف جرعات معرفية وثقافية تحرك أدمغتنا بتساؤلاتها ومحاوراتها ونطاستها وعمقها وتكنيكها اللبيب، فتبهر القلوب والعقول بوهجها ولمعانها الفكري والمعرفي وبقلقها التنويري النجيب.

وإنها لخطوة نجيبة أن يسعى الخيرون لشحذ الهمم، وتحريك الأقلام والعقول لرمي حجرة أنيقة في فضاء يحترق شوقا للإبداع ويجالد الصعاب لتجاوز التضاريس الوعرة والدوائر المتقاطعة وسط زحام الأفكار والأقلام في حلبة الثقافة والفكر، هذه الحلبة التي تمور بألوان من الإبداع والصخب والمفاجآت والأحاسيس الحارة والباردة.

وأنا أجلس في صدر هذا المكان الفاضل وبين هذه الهالة من حضرة حملة الأقلام والأفكار، أتوجه بالعرفان إلى الذين دفعوني برقة للمشاركة في هذه الندوة، وأخص بالذكر الأستاذ مبارك سالمين، وأهتبل هذه الفرصة لأتوجه بتحيات مفعمة بحرارة الصدق لزميلي وأخي الأستاذ نجيب يابلي صاحب النفس الجميلة والكلمات الحاذقة المغموسة بالهم اليومي، وأشكر كل هذه الوجوه النيرة التي أجد إيناسي في رؤيتها، ونتفق معها على أرضية واحدة في تجاوز أجواء الاحتقان وللخروج من عنق الزجاجة إلى ثقافة حضرية ومتمدنة.

فثمة أسئلة تلح في ذهني، وأنثرها في الفضاء الثقافي العام: هل نحتاج إلى منتديات ثقافية؟.. وما أهداف ومقاصد المنتديات الثقافية؟.. وما علاقة المنتديات الثقافية بالمجتمع المدني؟.. وما الفرق بين منتديات اليوم ومنتديات الأمس؟.. وهل وجود المنتديات الثقافية ترف أم لضرورة ثقافية ومعرفية وتنويرية؟.. وهل مناشط المنتديات الثقافية تشبع نهمنا الثقافي والمعرفي؟.. وهل المنتديات الثقافية هي بديل لمؤسسات الثقافة والتنوير الرسمية؟.. وما الفرق بين المنتديات الثقافية وجلسات القات (مبارز القات)؟.. وما السمات والتفردات التي تنفرد بها المنتديات الثقافية؟.. وهل المنتديات الثقافية أقصت المرأة عن المشاركة في الحراك الثقافي العام؟!

هذه الأسئلة خصيبة، لست حرا في الإجابة عنها لضيق الوقت أبسطها للمناقشة والتأمل والتحليل النقدي الماهر.

-1 المنتديات الثقافية في عدن:

عدن والميناء وجهان لمسكوكة واحدة، حيث كان ميناء عدن من أشهر الموانئ العالمية، وجلب الخير والنماء لهذه المدينة النبيلة عدن، وتميزت عدن برقي اقتصادي واجتماعي وثقافي وحضاري وسياسي، وبانفتاح على العالم، وبتأثر شديد بالحضارة الإنسانية والتمدن الغربي، وبالنظم والقوانين والتشريعات والأنظمة الإدارية والمؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية، والممارسات الديمقراطية، وبالتخطيط الحضري والمجالس البلدية، والنهضة العمرانية والخدمات الاجتماعية المتطورة، وبالانفتاح الاقتصادي (1).

- أصبح ميناء عدن منطقة حرة عام 1890.

- أدخلت المطبعة إلى عدن عام 1854.

- أنشئت أول مدرسة حديثة للتعليم عام 1856.

- وأدخلت خدمات البرق والتلغراف عام 1870.

- وبزغت أول مكتبة حديثة في عدن 1884.

- وأقيم أول مستشفى حديث في عدن عام 1885 في الشيخ عثمان.

- وتأسست الغرفة التجارية في عدن عام 1886.

- وأسس أول ناد رياضي في عدن عام 1887.

- وبزغ المسرح عام 1904.

- وتم تشغيل القطار في عدن عام 1919.

- استقبلت عدن الماء من الحنفية عام 1922.

- وعرفت عدن الكهرباء عام 1926.

- في عام 1939 أصدرت جريدة «محمية عدن» تم فتاة «الجزيرة» في 1 يناير 1940.

- 1942 صدر أول قانون عن (النقابات ونزاعات العمل) وانتظم العمل النقابي.

- افتتحت الإذاعة في عام 1954.

- وباشر التلفزيون بثه في سبتمبر عام 1964.

والمنتديات الثقافية في مدينة عدن غرست بذرة التنوير وكسرت قوقعة النمطية الصلدة، وجاءت متساوقة مع ما شهدته مدينة عدن من تطور مدني وحضاري وانفتاح إنساني شامل على العمل والتكنولوجيا والثقافات والمثاقفة، وعكست طبيعة التعدد السياسي والاجتماعي والثقافي الراسخ في نسيج هذه المدينة الشامخة والمتسامحة (عدن) التي انصهرت فيها الثقافات المحلية اليمنية وغير اليمنية لتكون نسيحا ثقافيا واجتماعيا وحضاريا متميزا له رائحته الخاصة ونكهة لذيذة وشائقة دفعت بعجلة النماء إلى الأمام.

وتأسست الأندية الثقافية والأدبية:

1- نادي الأدب العربي 1925 برئاسة الشاعر أحمد فضل القمندان وإدارة محمد علي لقمان (كريتر).

2- نادي الإصلاح العربي 1929 مؤسسه الشاعر محمد عبده غانم (التواهي).

3- نادي الإصلاح العربي 1930 مؤسسه أحمد محمد الأصنج (الشيخ عثمان).

4- نادي الإصلاح العربي 1930 مؤسسه محمد علي لقمان (كريتر).

ثم أخذت تتناسل الأندية والجمعيات والمنتديات الثقافية والتنويرية في عدن ولعل أبرزها كما يذكر د. علوي عبدالله طاهر (2):

مخيم أبي الطيب - كريتر 1939، كرمة أبي العلاء - التواهي 1942، حلقة شوقي - التواهي 1942، نادي يعرب بن قحطان - الشيخ عثمان 1943م، نادي الشباب الثقافي - الشيخ عثمان 1947، رابطة الجامعيين العدنيين - كريتر 1947، حلقة الملاح التائه - الشيخ عثمان 1950، نادي الأدب والفن - الشيخ عثمان 1951، نادي الشباب الأدبي - الشيخ عثمان1951، رابطة شباب عدن - كريتر 1953، المنظمة المتحدة للشباب اليمني - الشيخ عثمان 1959، الرابطة القومية للكتاب العرب - عدن 1962 ومؤتمر الخريجين - عدن 1962.

ولا أضيف جديدا إن قلت، إن هذه المنتديات الثقافية عكست ما يعتمل في غميس المشهد الثقافي من حراك ونماء ثقافي ينور مضائق الأذهان.

دعوني أتوقف على سبيل المثال لا الحصر عند مخيم أبي الطيب المتنبي الذي تأسس في 16 مارس 1939 كريتر - عدن الذي تميز بمناشط ثقافية وتنويرية تساعد على النهضة العقلية والحضارية.. وكانت أولى هذه الأنشطة تتمثل خصوصا في المحاضرات الأسبوعية التي كان يحضرها أعضاؤه الذين كانوا يتولون في الوقت نفسه التداول على إعدادها وإلقائها.. وكانت شروط العضوية فيه (إلزامه لكل عضو بالمشاركة في إعداد المحاضرات وإلقائها، وجعل ذلك أحد شروط العضوية، وإلزامه لكل عضو بالحضور المنتظم) (3).

وأبرز الوجوه الثقافية والتنويرية في مخيم أبي الطيب هم : محمد علي لقمان، عبدالرحمن جرجرة، عيدروس أحمد الحامد، حسين بيومي، محسن حسن خليفة، عبدالرحيم لقمان، يوسف حسن السعيدي، هاشم عبدالله، حامد محمد عبدالله الصافي، محمود شودري، جواد محمد شيباني، حمزة لقمان، حسن أغبري، علي محمد لقمان، علي محمد العماري، حامد خليفة، عبدالرزاق فكري، أحمد حامد الجوهري، محمود لقمان.

ولعله من المفيد القول إن الأستاذ محمد علي لقمان (1889 - 1966) ألف كتاب: بماذا تقدم الغربيون (1932)، كمادة تثقيفية لأعضاء نوادي الإصلاح العربي الإسلامي، وتبعه كتاب لأحمد سعيد الأصنج: نصيب عدن من الحركة الفكرية الحديثة (1934م)، وكتاب للأستاذ هاشم عبدالله: جزيرة العرب تتهم حكامها (1947).

وشهدت الحركة الثقافية والأدبية حركة تنوير وعراكات ثقافية وتنويرية عالية الجودة لا تخرج عن نطاق العقلانية والتنوير ما بين الاتجاهات الثقافية بألوانها الطيفية كتلك السجالات التي حدثت ما بين الشيخ محمد بن سالم البيحاني (1908 - 1972)، والشيخ علي محمد باحميش (1910 - 1977)، وبين الأستاذ عبدالله باذيب (1931 - 1976)، والشاعر لطفي جعفر أمان (1928 - 1971).

ودارت على صحفات «فتاة الجزيرة» المطارحات النقدية ما بين الشاعر محمد عبده غانم والمثقف محمد أحمد بركات، وفي مجلة «المستقبل» ما بين الشاعر لطفي جعفر أمان من جهة والشيخ البيحاني والشيخ كامل عبدالله صلاح من جهة أخرى حول موضوع (آفاق في الدين والفلسفة والأدب) وعن المعتزلة.

وامتدت هذه السجالات الأدبية والثقافية حتى منتصف السبعينات من القرن العشرين، حيث تواصلت المجادلات النقدية المتنورة ما بين الأستاذ عبدالرحمن فخري والأستاذ زكي بركات عن الواقعية والواقعية الاشتراكية في الأدب والفن (4).. كان للمنتديات الثقافية يد طولى في توطيد مداميك الثقافة والتنوير والنهضة العقلية، ونشر قيم المحبة والتسامح والتساكن الاجتماعي، وغرس شتلات التنوير.. فالثقافة لا تزدهر إلا في وعاء ثقافي حامل للثقافة، فلابد من وجود بيئة ملائمة ومتحضرة ومتمدنة لتطوير الثقافة والتنوير العقلي.

-2 المنتديات الثقافية اليوم:

ولدت المنتديات الثقافية ولادة عسيرة في أوضاع مترجرجة بعد حرب 1994، وبداية كانت أصواتها خفيضة ومهموسة في وضع فرض ظلمته على المناشط الثقافية والتنويرية، وفي مناخ تقهقرت فيه المؤسسات الثقافية، وانتشرت المعتقدات الصلدة، والأفكار الظلامية في المجتمع كانتشار النار في الهشيم، وعلت أصوات التكفير والمنع والزجر والحجر والتحريم طائشة بعيدة عن قسطاس الحكمة والتبصر.

في هذا الوضع المغلوم ظهرت المنتديات الثقافية لتسد الثغرة الخطيرة التي خلفها غياب المناشط الثقافية والتنويرية والمؤسسات المدنية الفاعلة في حقل الثقافة والتنوير، وبرزت إلى السطح منتديات بألوان طيفية نذكر منها على سبيل المثال:

منتدى «الأيام» - كريتر، منتدى اليابلي - الشيخ عثمان، منتدى الطيب - المنصورة، جمعية تمنية الثقافة والأدب - دارسعد، منتدى الشاعر محمد سالم باهيصمي - المنصورة، منتدى الفنان محمد سالم بن شامخ - المعلا، منتدى خورمكسر الثقافي - خورمكسر، منتدى العريش - خورمكسر، جمعية تنمية الموروث الشعبي - المعلا، منتدى مركز حنبلة للتوثيق (الشيخ عثمان)، منتدى باسويد - الشيخ عثمان، منتدى جامعة عدن (ديوان جامعة عدن)، منتدى صحيفة «الطريق» - التواهي، ديوان بيت العيدروس - كريتر، منتدى الهلال الأحمر - خورمكسر، منتدى الصهاريج - كريتر، منتدى نقابة هيئة تدريس جامعة عدن - كريتر، منتدى د. مرشد شمسان - خورمكسر، منتدى الروضة - التواهي، منتدى جمعية آل بانافع الخيرية الاجتماعية - المنصورة، منتدى باصديق - المنصورة، منتدى بومهدي - المنصورة ومنتدى نقابة المهندسين - خورمكسر.

تقوم المنتديات سالفة الذكر بفعاليات مختلفة منها:

المحاضرات الثقافية والسياسية، الندوات، الأمسيات القصصية والشعرية، والأمسيات الفنية، الفعاليات المكرسة لتكريم رجالات الأدب والفن والموسيقى والفكر، الأمسيات المفتوحة، القراءة للمذاهب الفكرية والسياسية والدينية والفلسفية، قراءات للوضع السياسي والاجتماعي والثقافي المحلي والعربي والعالمي، ونقاشات لمعضلات الحياة والتنمية والصحة والطفولة والمسرح، والفنون الجميلة والتشكيلية، ووسائل الإعلام ومؤسسات الثقافة والتنوير.. فهذه الفعاليات رغم محدوديتها إلا أنها تصب في خانة الخير العام، وتسهم في نشر الوعي والثقافة.

وهناك ملاحظات لابد من الجهر بها، ألا وهي:

1- أن بعض الفعاليات يغلب عليها الطابع الدعائي، ولا تحمل بذرات التنوير.

2- أن بعض المنتديات تتحرك بالريموت كنترول وحسب ما يملى عليها.

3- تتميز بعض المناشط للمنتديات بالعشوائية والارتجال.

4- بعض المنتديات موسومة بسمة الانغلاق والتقوقع على الذات وضعف روح التسامح.

5- ثمة فعاليات ثقافية مفعمة بالنمطية والتكرار والتقليد.

6- تصمم بعض الفعاليات خصيصا لبعض الوجوه، وتعزل وجوه ثقافية وتنويرية لغرض في نفس يعقوب.

7- تتصدر بعض المناشط شخصيات ليس لها علو كعب في الثقافة والأدب والفن والسياسة والاجتماع مما يسرق وهج وأهمية الموضوع الذي يحول إلى تسطيح ممجوج.

8- المنتديات الثقافية عزلت المرأة عن الحراك الثقافي والتنويري ويعد ذلك امتدادا للهيمنة الذكورية على المجتمع، فلا مجال للمرأة في هذه المنتديات لأنها تعقد فعالياتها ضمن طقوس الجلسات القاتية مما يتعذر على المرأة الحضور والمشاركة بفعالية.

المنتديات الثقافية لها بصمات عزيزة ونبيلة في المناخ الثقافي العام، فلابد من مساعدتها للنهوض بأدوارها التنموية والتنويرية، ولعل قلة الإمكانيات المادية تعد من العثراث المهمة التي تعيق أعمال ومناشط المنتديات الثقافية فضلا عن هيمنة البُعد السياسي على البُعد الثقافي والتنويري في نشاط وفعالية بعض المنتديات الثقافية.

فلابد من:

1- دعم المنتديات الثقافية ماليا وماديا ومعنويا لمواصلة مشوارها الطويل.

2- على المنتديات توسيع جمهورها حتى لا تتميز فعاليتها بالنخبوية.

3- لابد من تغليب الطابع الثقافي والتنويري على المسحة الإعلامية والدعائية.

4- على المنتديات أن تعزز من استقلالها المالي والإداري والتنظيمي والثقافي.

5- يجب على المنتديات التخلي عن الفعاليات الروتينية الخالية من نكهة الإبداع.

6- على المنتديات تجنب انتخاب بعض الأفراد للقيام بفعاليات خارج إطار مقدراتهم العلمية والثقافية والتنويرية.

7- التركيز على الطابع النوعي في إشغال المنتديات بدلا عن الفعاليات المنبرية الاستعراضية التي تشحن فيها الأسماء ولا يكون منها سوى جعجة في الهواء.

8- لابد من تنسيق جاد بين المنتديات، وتبادل الخبرات بعيدا عن الضغينة والنجومية القاتلة التي تؤثر سلبا على المناشط المتميزة.

9- التخطيط والتنسيق للفعاليات ببرامج سنوية أو نصف سنوية أو فصلية سيساعد كثيرا على تنظيم الأشغال وعلى انسيابية الفعاليات بصورة دقيقة وحكيمة.

10- العمل على جذب المرأة لمناشط المنتديات الثقافية والكف عن مضغ القات إذا تطلب الأمر ذلك.

الهوامش:

1- انظر: د. سمير عبدالرحمن الشميري، المجتمع المدني والمواطنة المتساوية (صنعاء: مركز عبادي للدراسات والنشر 2008) ص 51.

2- مخيم أبي الطيب، أقلام المخيم، عرض وتقديم: د. علوي عبدالله طاهر (عدن: دار جامعة عدن للطباعة والنشر، ط 1، 2007م) ص6.

3- الموسوعة اليمنية، في أربعة مجلدات، المجلد 4 (صنعاء: مؤسسة العفيف الثقافية، ط 2، 2003م) ص2569، 2570.

4- د. سمير عبدالرحمن الشميري، مرجع سابق ص 95، 96.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى