الشيخ إبراهيم اليافعي.. لؤلؤة في زمن فحّام

> فضل النقيب:

> لم أشأ أن أقول «في زمن فحّامين»، فهؤلاء يوجدون في كل عصر ومصر، وأجلهم قدرا من انصرف إلى فحمه ولحمه، وسلم الناس من سخامه ولغوه، ولكن الذين يتسيدون الحياة والأحياء طوعا أو كرها، إذا لم ينهضوا بمسئولياتهم في ترقية الحياة واحتضان الإبداع ورعاية النوابغ، فإنهم في سجل التاريخ ذلك الزبد الذي يذهب جفاء، فهم أشد وطأة على المجتمع من الأمراض الوبائية الفتاكة، ذلك أن الناس على دين ملوكهم، فإن كانوا من العميان فقأ الناس عيونهم تشبها بهم وتقربا إليهم، وإن كانوا من المبصرين استضاءت الحياة، وعمت الأنوار، وتيسرت الأرزاق وازدهرت الآداب، وأخذت عجلات الحضارة والترقي تخب في كل الدروب تقطع الشهوب وتصعد النجود.

هذه مقدمة بين يدي الشيخ الجليل الشاعر المحلّق الذي شهد له أدباء عصره ومن لحقهم بالتفوق والإجادة ولطافة الروح وخفة الظل وتطويع البيان إبراهيم بن أحمد اليافعي المولود في أوائل القرن السابع عشر الميلادي، ويقول عنه العالم الشاعر الناقد يوسف بن يحيى بن الحسين ابن المؤيد في كتابه (نسمة السحر):«اليافعي شاعر تخال الشفاه شعره حُبابا فترشفه رشفا، وتحسبه العيون الرياض فلا ترجع عنه طرفا، لا تسجع الوُرق بغير نسيبه، ولا يترنم الوامق بسواه في مجلس حبيبه، أحلى من الحور في عين الغيد، ومن رنات المزهر بكف ساجع غريد».

وأحمد هنا للأستاذ الكبير أحمد محمد الشامي نفضه غبار التاريخ عن هذا الشاعر الملهم الذي زرع سماء صنعاء واليمن نجوما زاهرة وحكايا سائرة، وذلك ضمن كتاباته عن «شعراء اليمن في الجاهلية والإسلام»، وكان مما قاله:«لابد لي أولا أن أعتذر لتاريخ آداب اليمن والشاعر اليافعي نفسه لأنني قد أهملت ذكره في كتابي: قصة الأدب في اليمن، لا عمدا ولا تجاهلا بل جهلا وقصورا. ولقد كان ظريفا لطيفا أديبا عالما منشئا واسع الأفق ملتصقا بحياة صنعاء أكثر من زملائه ومعاصريه من الشعراء: دعابة وسخرية بالحياة».

ولكن اليافعي -الصنعاني اجتذبه مغناطيس الفقر الملازم لمبدعي العصور القديمة، وأعجزته الحيلة عن الوصول إلى ذوي النفوذ والأموال من الحكام والأقيال، فامتهن (الحِظاية)، وهي توشية ملابس الرجال والنساء بالحواشي والخطوط الحريرية والفضية والمذهبة، ولعل المهنة التي لا ندري أين تعلمها هي أقرب إلى أعمال الفن، وكانت هذه الحرفة سائدة إلى وقت قريب في العديد من المناطق اليمنية الحضرية وحتى في بعض الأرياف حيث كان يمارسها بعض الفقهاء في فترات ما بين الدرس.. وقد شهدت ذلك بنفسي.

وحتى لا يأخذنا الحديث فأجد نفسي في نهاية المساحة المخصصة لهذه الزاوية أشير إلى أن اليافعي كان يحوز نفسا جميلا ولغة رائقة وأخيلة محلقة في الشعر الصوفي وعلى نسق الكبار من مبدعيه.. ولنأخذ أنموذجا على عجل:

هذا العذيب بدأ فقل بُشراكا

والزم إخائي لا عدمتُ إخاكا

بالله إن جزت العقيق وسفحه

فأقم به إن النزول هناكا

وأقل بضلّ الضّال فيه مسلِّماً

عنا وشرّف بالتحية فاكا

يا ريم وادي المخنى كم قائل

لي في غرامك ما نَهاك نُهاكا

مالي وللعذّال فيك عدمتهم

مالي وروحي يا حبيبي فداكا

وواضح لكل ذي ذوق لطيف وذائقة شعرية مترفة أن نفاسة هذا الشعر تدل على نفاسة صاحبه وثقافته وقدراته على تطويع اللغة.

ولليافعي مداعبات تشف عن نفس سمحة سهلة القياد، ومن ذلك ما كتبه الشاعر سعيد السمحي عن شاعر يدعى السراحي كان يعارض الأدباء ويعبث بأشعارهم:

ثكلتكمُ بين الآداب إن لم
تبثوا في الملا طرق الأهاجي

فليس يعدُّ في الأدباء من لا
يبول معي على نار السراحي

فقال اليافعي معقبا:

ألا طوعاً لأمرك يا سعيدُ
وسمعاً ما حييت وما حينا

أمرت بأن نبول على السراحي
فها سمعاً لأمرك قد (خرينا)

رحم الله الشيخ إبراهيم بن أحمد اليافعي نسباً والصنعاني مولداً ورحمنا جميعاً.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى