كل مكسور يُجبر والحسوفة على ساه!

> د.محمد سالم الجوهي:

> لم تكن المرة الأولى في التاريخ التي تشهد فيها حضرموت أو جزء منها كوارث أمطار شديدة وسيول جارفة أثرت- بشكل أو بآخر- على حياة السكان والمساكن والمنشآت والتربة والمزروعات والحيوانات، وأحيانا حصدت عددا من السكان أنفسهم.

وهذا الأمر ليس غريبا على منطقة جافة كما هو حال حضرموت، لكون المناطق الجافة تتميز بأمطار متذبذبة لا تقدر كمياتها، ولا تعرف مُدد سقوطها ولا الأماكن التي تسقط عليها، فهي قد تسقط بكميات كبيرة في مدة زمنية قصيرة، وقد يندر سقوطها أو ينعدم في مدة زمنية طويلة، وقد تتباين من حيث المدة والكمية ومكان السقوط وزمنه، وهنا يصعب معرفة مدد سقوط الأمطار وكمياتها ووقت سقوطها فضلا عن المناطق التي تستهدفها، الأمر الذي يجعل أمطار المناطق الجافة أشد خطورة من غيرها.

وعلى الرغم من ذلك إلا أن السكان في حضرموت تكيفوا مع هذه الظروف الصعبة، من خلال تجاربهم وتاريخهم الطويل في هذه المنطقة، وقد أبدعوا فعلا في مراقبة الأحوال الجوية بكل مفرداتها، وتعاملوا معها بشكل جيد، ولهم من الإرث الشيء الكثير في هذا المجال قلما نجده في مناطق كثيرة من العالم.. وقد أبدعوا أيضا في بناء نظم الري التقليدي (السطحية وتحت السطحية)، ومعرفة الزراعة ومواسمها، فضلا عن أحوال البحر وغير ذلك.. إلا أن هذا لم يجعلهم في مأمن من الكوارث (كوارث الأمطار والسيول) التي تعرضت لها حضرموت أو جزء منها، حيث تعرفنا على ذلك من خلال بعض الكتابات والأشعار والقصص والحكم والأمثال المكتوبة أو المنقولة، فضلا عن المعالم الجيومورفولوجية والطبوغرافية.. وفي هذا المقال يمكننا الإشارة إلى جزء من الأشعار التي تحدثت عن كوارث مرت بها بعض مناطق حضرموت، حيث يروى أن سيل جارف تدفق من وادي بضي (أحد فروع وادي عدم الجنوبية) قبل نحو ثلاثمائة عام سمي بسيل (الحيمر)، جرف تربة وادي بضي ومزروعاته وغيّر معالم الهوبجة (أوسع منطقة زراعية في ريدة الجوهيين)، وجرف التربة والحياة النباتية في وادي الريان، الأمر الذي جعل السكان يغيرون اسمه من وادي الريان إلى وادي عدم المعروف حاليا، وقد جرف هذا السيل النساء من خدورهن في ليلة زفافهن عند المشايخ آل باطوق (في وادي عدم نفسه)، وتسبب في دمار شديد في منطقة ساه، وقد تحسر عليها الشاعر ووصف كسرها بأنه لا يُجبر.. ووصل هذا السيل إلى حيد قاسم مرتفع المنسوب وأحدث ضررا في الغناء تريم وعينات وهكذا، وكأن الشاعر في قصيدته يصف الكوارث الأخيرة التي تعرضت لها المنطقة وليس قبل ثلاثمائة عام، وإليك أبيات مختارة من هذه القصيدة الشعبية التي قيلت قبل نحو ثلاثمائة عام:

أبديت بالله سبحان الذي مانسيته

خالق الخلق يالمعبود والكون لي فيه

ماحسبت أن بضي يجهل والملك قد عبر فيه

وشل مشطه في الحوطة جنا النوب وغذيه

فاض من لصب ضيق عاصباره وماليه

مر في الهوبجة شيء يشله وشيء يخليه

فاض وادي عدم شلع النخل لي فيه

والحضيرة بكت عانخلها والمنيتيه

يوم بن طوق يبكي على موشم شغايه

كل مكسور يجبر والحسوفة على سيه

جاك لاسيه طامي والقرض قد نكس فيه

قد طلع للجدافر والمنابيص لي فيه

قد وصل تحت راوك والمحول سمعناه

حول ياحول ذا سيل ماقد راينيه

فاض حادر منكس والغوارب تلاقيه

جاك لاحيد قاسم ضيق تحته وماليه

حدر السيل للغناء وصيته قد بلغ فيه

شل بر الحرث والصقاوع مع مجاريه

رب وش ذا الفضيلة على الناس تكفيه

يامجمل تجمل صاحب الحمل تشفيه

تحت عينات بعد العصر ماحد درى فيه

ياوسيع المدد شربة هنية رعضنيه

كما وصف الشاعر المرحوم المحضار الأمطار التي أدت إلى كوارث في وادي حضرموت، ولاسيما وادي عدم قبل نحو ربع قرن من الزمن بقوله :

أيش باقول ذا شيء غير عادي

عادها مابدا وقعت كما ذي

سيل وادي عدم في وادي العين

كل ماجابه الله زين

وهذا مقطع من قصيدة طويلة للمرحوم المحضار، وفيه كناية عن كبر السيل عندما وصف سيل وادي عدم في وادي العين، لكونه من المستحيل أن يحصل ذلك نتيجة للبعد الجغرافي بين الواديين.

وعندما تأخرت المعونات التي تقدمها الدولة للمتضررين من الأمطار والسيول في ذلك الوقت قال الشاعر المحضار - رحمه الله - في قصيدة طويلة :

قل للحكومة طالت النومة

مرت أسابيع واحنا مساهنين الخير

الكارثة خلت النفس مكتومة

لله نشكر بس مانشتكي للغير

وين المعونات راحت كلها رومة

وإلا يضحكون أهل الخير عا أهل الخير

الناس تبغي مساكن صدق محكومة

شلوا خيمكم عطوها المعينة ومرير

الله يرحمك يالمحضار وكأنك عايش معنا اليوم !!

وفي أواخر الشهر الماضي (24/23 أكتوبر 2008) تعرضت حضرموت لكارثة لم يسبق لها مثيل في التاريخ القريب، استشهد فيها قرابة 80 شخصا وجرفت وهدمت الآلاف من المساكن ومئات الآلاف من النخيل والأشجار المعمرة وعشرات الآلاف من خلايا النحل والحيوانات، وجرفت مليارات الأطنان من التربة، وغمرت مئات الآلاف من الأفدنة من الأراضي الزراعية والمزروعة فعلا ومئات الآبار الإرتوازية والمفتوحة، وكان معظم هذا الخراب أحدثه سيل وادي عدم بدءا بريدة المعارة الجوهيين وانتهاء بالمسيلة فضلا عن بعض الأودية الأخرى كوادي دوعن وعمد والعين.

وهنا نقول إن الانسان الذي كرمه الله بالعقل وأحسن تقويمه واستخلفه في الأرض يجب أن يعتبر ويتعظ من الماضي ويؤسس في حاضره لمستقبل زاهر بعيدا عن الأخطاء والمخاطر (فالمؤمن لايلدغ من جحر مرتين)، ومن المؤكد أن الإنسان العادي يميز مدى الخطورة التي ستترتب على عملية التعمير والاستثمار والاستقرار في مجاري الأودية والمسيلات المائية، وفي المناطق المنحدرة والهشة والمنخفضة القابلة للغمر والمناطق الضعيفة جيولوجيا وغيرها من المناطق الخطرة.

فإذا تمادى (الإنسان) في ذلك تحت دافع الطمع أو الجهل أو العصبية، غير آبه بالمخاطر المتوقعة، فأولى بولي الأمر أن يمانعه في ذلك ولو بالقوة، فالمسؤولية عظيمة تقع على كاهل المواطن وولي الأمر معا.

واستشعارا منا بخطورة ماجرى ويجري من بناء واستثمار واستقرار ولاسيما في المناطق الخطرة في حضرموت دونما اكتراث بالعواقب التي ستترتب على ذلك عند وقوع الأمطار والسيول أو ارتفاع منسوب مياه البحر أو حدوث أبسط هزة أرضية لاسمح الله، فقد كتبنا وقلنا الكثير في هذا المجال فعلى سبيل المثال:

مقال بعنوان (من هو المسؤول؟) وآخر عن (خريطة استعمالات الأرض)، وثالث عن (مبادئ التخطيط الحضري)، ورابع عن (المخطط التوجيهي (Masterplan))، وكلها نشرت على صفحات «الأيام» في أعداد مختلفة.

كما تحدثنا شفهيا في أكثر من محفل وكان آخرها اللقاء بفخامة رئيس الجمهورية ورئيس مصلحة عقارات وأراضي الدولة الذي عقد في القصر الجمهوري بالمكلا قبيل حدوث كارثة الأمطار والسيول الأخيرة، شددنا فيه على ضرورة وأهمية وضع خريطة لاستعمالات الأرض في حضرموت وغيرها من المحافظات، تحدد عليها الاستعمالات الحقيقية للأرض على وفق مقوماتها وخصوصياتها كالأراضي المعمورة والصالحة للعمران والأراضي الزراعية والصالحة للاستزراع والأراضي السياحية والصناعية المحرمة والمراعي والمحاجر ومناطق التعدين وغيرها.. وقد لاقت هذه الفكرة استحسان فخامة رئيس الجمهورية، وأكد على ضرورة تنفيذها على أن تعتمد هذه الخريطة وتكون ملزمة لكل الجهات كخريطة توجيهية لكل الأنشطة البشرية وهي (الخريطة) ليست أبدية، بل تحدث عند الضرورة لتحقيق منافع عامة، أما إذا ترك الحبل على الغارب وتجردت الدولة والمواطن عن مسؤولياتهم ستستمر عملية التجاوزات والتعدي غير المحسوبة وستكون الكوارث المترتبة عليها مستقبلا أشد وأفضع، والضحية هو المواطن في وقت لاينفع فيه الندم والتحسف على ساه مرة ثالثة.. ولهذا فلابد من جزرة الدولة وعصاها وصحوة المواطن.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى