روائح كريتر

> فضل النقيب:

> تسكنني روائح هذه المدينة العطرة المعجونة بين قلبي وشرايينه بفوح الزعفران وعطور البُهرة بخلطاتها السحرية وقنانيها الكريستالية، بروائح البن المحمص، وفوح مخابز الكيك والروتي، ورشاش روائح القرنفل وجوز الطيب في مقاهي الشاي: «حوج ياحيدرة»، وبعقود الفل والكاذي والياسمين تبعث بنداءاتها مع الغروب و«ليلة خميس» يامشتاق.

عدن في ذاكرة الطفولة دنيا كاملة من الروائح المميزة. كنت أتسلل من دكان الوالد في حافة الحدادين وأنحدر باتجاه مدرسة السيلة لنلعب كرة قدم على أرض إسفلتية تغلي أيام الصيف، وكان عدد من الحدادين لايزالون يطلبون الله تحت وهج النيران ومقارع الحديــد المحمر من اللهيب ليتطوع ويلين، وقد ألفت رائحة الحديد المميزة التي أثــارت اشمئزازي في البدء، في صراعه مع النار وزبر الحديد (ما يفل الحديد إلا الحديد.. أليس كذلك؟). في الأزقة الصغيرة المزدحمة بالسابلة حتى الطفحان تتنوع المحلات وتختلط الروائح ببعضها، فثمة العطارة بفوحها النفاذ: الزنجيل، الهيل، القرفة، الهرد، التمرهندي، جوز الهند، الثوم، البصل، الحبوب المطحونة، الأسماك المملحة، وثمة محلات الأقمشة التي تدل روائحها على أصولها ومادتها الأولية. نخرج من مدرسة السيلة عصابة من «الجواعى» المدماة أقدامهم، ويكون هدفنا النهائي محل عبده علي أبو البرد (بين الميدان وحافة حسين) حيث نشتري قارورة حليب مثلجة كاملة الدسم وحبة كيك لكل واحد منا، وكنا نطلق على هذه الوجبة تحببا «زجا وعافية» أي قوة وصحة، ومع الزمن والتكرار صدقنا أنفسنا فصرنا نذهب إلى هناك في أوقات أخرى. كان للحليب رائحة طازجة نفاذة وللكيك رائحة الفانيليا. وكان عبدالله عبده علي الشاب الأسمر الوسيم يلعب معنا أحيانا، وحين يرانا في المحل «يحيص» فاللعب في تلك الأيام لم يكن الآباء ينظرون إليه بالرضاء السائد هذه الأيام.

وقد التقيت عبدالله مرات عديدة في السنوات الأخيرة دون أن أتذكر أنه صديقي القديم، وأراه يبتسم ابتسامته المميزة بوجهه الدائم الفرح، فأقول يا له من إنسان لطيف. وقبل أيام جاءت سيرة عبدالله مع صديق في أبوظبي فقال لي إنه عبدالله عبده علي أبو البرد، ياللذاكرة التعيسة، تحياتي ومحبتي ياعبدالله والعتب على النظر كما يقولون. المهم أن الثلج له رائحة مميزة ممزوجة بالبرودة، وطالما وصلتنا شظايا من الألواح الثلجية التي يتم تقطيعها، وكان ذلك يسعدنا. ومقابل المحل كان هناك أحد الأخوة الصومال يبيع أفضل معكرونة يمكن تذوقها آنذاك وبثمن بسيط، وقد اختفى هذا المحل ولكن روائحه الزكية لم تختف، وفي ركن الميدان بائع الليمون والزنجبيل المشروبين الأكثر شعبية، وأمامه مقهى عثمان والمطعم الذي بجانبه في الركن وكلاهما يعطر الأجواء بروائح شهية تنادي المارة وتُسيل لعابهم.

وفي الميدان وعلى امتداد الطريق إلى سينما هريكن «مستر حمود» قرب منزل الوالد في الخساف كان باعة التفاح والبرتقال يصطفون بعرباتهم المتحركة وأكثرهم لديهم راديوهات هي من عجائب ذلك الزمان، وتسمع أحمد سعيد يلعلع من إذاعة «صوت العرب» المفضلة وهو يصيح بصوته الأجش الجهوري: ياعرب الدنيا.. الثورة تدق الأبواب، والاستعمار سيرحل بنضالكم... إلخ تلك المعزوفة التي خمدت مع هزيمة 1967م. المهم أن روائح البرتقال كانت تعطي للمكان طابعه الخاص، فإذا ما وصلت إلى أمام السينما ليلا فثمة تلك الروائح القوية للحوم المشوية و«القلابات»، وكان طباخو تلك الوجبات الرصيفية يتفننون في إضفاء مذاق شهي على وجباتهم وتسمع فحيح النيران في المقالي حيث تُرسل اللهيب إلى السماء ومعه روائح البهارات التي لم يكونوا يبخلون بها، وكانت مجموعة أخرى منهم تتمركز بجانب سينما البينيان بين الميدان وشارع الملكة أروى. الزعفران كان يتميز بروائح الروتي والكيك من مخبز الحاج عبدالعزيز الأغبري والمخبز اليوناني وغيرهما من المخابز الصغيرة المتنافسة.. و«قل للزمان ارجع يازمان».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى