رحل في الوطن.. بعد أن قضى حياته في الغربة يترنم «يالله بعودة قريبة».. الشاعر الفنان صالح مبارك سالمين

> «الأيام» رياض عوض باشراحيل :

> رحل عن دنيانا الشاعر الغنائي القدير الفنان صالح مبارك سالمين أحد أعلام الفن والتراث والدان الحضرمي الذي وافته المنية مساء يوم الثلاثاء 3 مارس 2009م وبرحيله فقد فننا الغنائي أحد أعز أبنائه الذين سخروا حياتهم في خدمته وأفنوا رحلة العمر في سبيل الارتقاء به وتطويره.

الشاعر والمطرب الفنان صالح مبارك سالمين (أبوعلي) ليس شاعراً غنائياً فحسب، بل هو شاعر وملحن ومطرب ذو صوت شجي رخيم في آن معاً، يتميز بأدائه الصوتي للأغنيات وهو يعزف على الإيقاع أو الدف، ولا عجب فهو عازف مميز على كافة الإيقاعات، يمارس بتلك الإيقاعات المتنوعة مختلف الفنون الغنائية التراثية الحضرمية كالاستماع والزربادي والغياضي والشواني وغيرها، فاستطاع أن يجمع الأصالة بأدائه الأغنيات والرقصات الشعبية التراثية إلى المعاصرة بأدائه الأعمال الغنائية الحديثة سواء أكانت من أغنياته أم من أغنيات غيره.

وشاعرنا الفنان صالح مبارك من مواليد مدينة تريم بحضرموت في العام 1934م، وفي رباط تريم تلقى شاعرنا نسائم تعليمه الأول بعد أن نال قسطاً من التعليم في الكتاتيب، نظم قوافيه الأولى مبكراً في العام 1949م وعمره لايزال نحو (14) سنة، بدأ مشواره الفني عضواً في فرقة الزربادي ضمن كوكبة من رواد فن الدان، واستطاع بأدائه الفني المميز وتألقه أن يبرز فيما بعد كأحد رواد هذا الفن. وفي العام 1965م غادر شاعرنا أرض الوطن وقرر الاغتراب إلى المملكة العربية السعودية طالباً الرزق الحلال بعد أن ضاقت به فسحة العيش في الوطن فألقى عصا الترحال في مدينة جدة. وفيها أسس فناننا في منزله «جلسة فنية» كانت يومية ثم أضحت أسبوعية تعقد كل يوم جمعة هي أشبه بـ«المنتدى الفني» يؤمه الشعراء والملحنون والموسيقيون والمطربون وعشاق الفن ومتذوقوه من أبناء الجالية اليمنية، يتبادلون الأحاديث في الفن والتراث، ويستأنسون بآراء شاعرنا صالح مبارك في كثير من القضايا الفنية ويستمعون إلى أنغام حنجرته العذبة وأصوات ضيوفه من المطربين وهم يشدون بروائع الطرب الحضرمي والغناء الأصيل، ولاعجب فإن أحوال الغربة وظروف البعد والفراق التي يكابدها المغترب في غربته قد جعلت فناننا يتماهى بنجاح مع محتاجات جمهوره من المغتربين لتخفيف معاناتهم فتشرح صدورهم وتعيد بهم أحلام الذكريات إلى الماضي الزاهر في الوطن.. ولعل الغربة الطويلة التي عاشها الشاعر في مهجره بعيداً عن الأهل والديار والوطن تعد أكبر مشهد نفسي كان له بالغ الأثر في حياته وشعره فيعزف على وتر الحنين إلى الوطن وتزداد أشواق شاعرنا الفنان فيترنم:

زاد اشتياقي إلى وادي الهنا يا خير وادي
إليه القلب مال

شوقت لأحبابي وخلاني
يالله بعوده بين الأحباب

من بعدها صرت في حيرة ولا تهنى رقادي
على البعد طال

ذكراهم دائم على لساني

وخيالهم علعين ما غاب

يالله عسى ينقضي المقصود يتحقق مرادي

وتبلغ لي الآمال

باأطفي آلآمي وأحزاني

القلب حن والشوق غلاب

وتتكرر أنغام الشكوى من الغربة وآلامها وأحزانها في أشعار صالح مبارك سالمين، وكان الشاعر يجد في البث عما في نفسه من مشاعر متنفساً لهمومه وأحزانه، بيد أنني لا أستطيع أن أغادر الحديث عن تجربة الغربة والحنين إلى الوطن عند شاعرنا دون الإشارة إلى رائعته الغنائية الشهيرة «يالله بعودة قريبة لك يا مدينة شبام» هذه الأغنية ذائعة الصيت، والمميزة إبداعياً صاغها شاعرنا من أنغام قلبه وألحان روحه المفارقة ملحمة حب وعشق للوطن، فجاءت كلماتها من السهل الممتنع روعة في تعابيرها، وتناسق عواطفها وأفكارها، وحلاوة أنفاسها، وهي تعد من روائع الغناء الحضرمي، وقد زادتها روعة على روعة أنغام جوهرة الطرب الحضرمي الفنان القدير بدوي زبير - عليهما رحمة الله- عندما أداها بموهبته الصوتية الفذة وترنم بها في سمو وتفوق قل نظيره، فالتحمت موهبة تريم في الكلمة واللحن بموهبة شبام في الأداء الصوتي، ولا عجب فمدينة شبام هي توأم مدينة تريم الغناء في المنزلة العلمية والتاريخية، فشدا شاعرنا في وصف مشاعره وأحاسيسه وأشواقه للوطن رامزاً له بمدينة شبام أم القصور العالية ومدينة ناطحات السحاب قائلاً:

ياأم القصور العوالي

يا ناطحات السحاب

لك صيت في الأفق عالي

باقي ليوم الحساب

يا موطن أحباب قلبي مني عليك السلام

يالله بعودة قريبة لك يا مدينة شبام

ويبعث الشاعر مع الطائر رسالة شوق ومحبة، ويمزج في بساطة وتلقائية بين عاطفة حب المحبوبة كناية عن حب الأهل وعاطفة حب الوطن فيمتزج الحنين والذكريات بالفن والجمال:

با أرسلك ياطير عاني

با أعطيك مني كتاب

سلمه سيد الغواني

وعود لي بالجواب

يفرح ويشرح فؤادي يبري الألم والسقام

يالله بعودة قريبة لك يا مدينة شبام

وشاعرنا صالح مبارك رقيق العاطفة، مرهف الإحساس، يتأثر بكل ما حوله من أشياء وكائنات وأحداث صغيرة أو كبيرة أو مؤثرات نفسية تحرك نفسه وتهز مشاعره، فكيف لا تحركه الأشواق وهو في الغربة ولا يهزه الحنين إلى تلك الرحاب والمباني الشامخة في وطن الشموخ، مدينة ناطحات السحاب، فأسمعه يشدو بصوته العذب:

وحيَّ ذيك المباني

وحيَّ ذيك الرحاب

يعجز لوصفك لساني

إن شبت أو كنت شاب

مطبوع في القلب حبك وأرعى الوفاء والذمام

يالله بعودة قريبة لك يا مدينة شبام

رائعة جداً هذه القيم الأخلاقية كالوفاء ورعاية الذمة التي يبثها شاعرنا في شعره، ورائع أيضاً ربطه الحسي بالمعنوي في قوله «مطبوع في القلب حبك» فالحب شعور معنوي بينما طباعته فعل حسي، ويواصل شاعرنا شدوه وتغريده كاشفاً عن حرقة الهوى وعناء السفر والبعد ولوعة الفراق الطويل:

غيرك ما يخطر ببالي

طال السفر والغياب

الله يعلم بحالي

رغم العنا والصعاب

بانزل وبانصيب خيامي عند ناصبين الخيام

يالله بعودة قريبة لك يا مدينة شبام

وصدق شاعرنا فغير الوطن لايخطر بباله، وأن السفر والغياب قد طالت رحلته بعد أن تقاذفته رياح المقادير في الغربة..

إنها شحنات عن الأشواق والحنين أذكتها نار الغربة التي لم تزده إلا حباً في وطنه وتعلقاً به، ثم عاد الطائر الغريب إلى الوطن عاد إلى تريم الغناء وفيها استقر لعام ونيف ثم التحف ترابها الطاهر.

رحم الله صالح مبارك سالمين وأدخله فسيح جناته.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى